لا أعرف سببا لقيام الثورات سوى غياب العدل، واختفاء العدالة، فمن المفترض أن تقيم مؤسسات الدولة «العدل» وتحرص عليه، لكنها فى الأنظمة المستبدة تقيم الظلم وترعاه، فيصبح ذا شكل قانونى ومتن عفن مخيف، لذلك ينتفض الناس من أجل إقامة العدل «بأيديهم»، بعد أن رأوه مغتالاً بأعينهم، وأول ما تحرص عليه الثورات هو اختيار الشخص المناسب فى المكان المناسب، لأن ذلك الاختيار يكفل للدول التقدم والتطور والنمو والازدهار، واختيار الأفضل دائما يكفل التقدم المستمر، ولا شىء يدمر الدول والمجتمعات سوى اختيار الشخص غير المناسب فى المناصب القيادية، فكل شىء يفسد أول ما يفسد «من رأسه».
لذا كانت الحكمة النبوية آية فى الصواب، حينما جعلت «توسيد الأمر لغير أهله» سببا من أسباب قيام الساعة، وعلامة من علاماتها الفارقة.
كان الحلم إذن حينما قامت الثورة أن يتم «توسيد الأمر لأهله»، دون وساطة أو محسوبية أو شللية أو تعصب لجنس أو فئة أو طبقة أو شريحة، وتلك عين «المساواة» وأجل آياتها، فحينما يدير «الأفضل» مؤسسة من مؤسسات الدولة، فإنه يملك كل المقومات التى تجعله يسعى فى طريق الحلم، لتكون هذه المؤسسة «أفضل».
ومن ثم فإن تعميم حالة «عدالة الاختيار» يجعل الوطن فى قلب الأوطان الناهضة، عكس ذلك يجلب الانتكاس، ويرسخ الركود فى القاع، ويهرول بالبلاد نحو هاوية لا يتحملها أحد، ومن ثم تصبح الحاجة إلى ثورة لتصحيح مسار الثورة، واجباً وطنياً لا فرار منه، ولا ذهاب عنه، ويصبح ما دون ذلك عبثاً مؤلماً فى قلب مفتوح.
سأسألك: هل شعرت بالعدل بعد قيام «ثورة يناير»؟ هل رأيت «توسيد الأمر لأهله»؟ هل شعرت بأن أبناء الوطن متساوون؟ هل اطمأن قلبك إلى أن القائمين على مؤسسات الدولة يقيمون العدل؟ هل ترى حكامنا يتقون الله فينا؟ هل وجدتهم يجتهدون من أجل تحقيق المساواة.. أم من أجل تقنين الباطل؟ هل شعرت بأن اختيارات الحاكم تنبع من إيمانه بأبناء وطنه دون تمييز أو تفضيل لفئة عن فئة أو فصيل عن فصيل؟ هل من حقك الآن أن تحلم بأن تكون قاضيا أو ضابطاً أو وزيراً، دون أن تضطر إلى النفاق أو التزلف أو الرشوة؟ هل شعرت يوما بأن وطنك عاد إليك؟
بالنسبة لى فإنى لم أر أحدا يختار الأفضل إلا الموت، وما موت ذلك الرجل «محمد يسرى سلامة» أمس الأول إلا مثال صارخ، يؤكد أن الحياة تلفظ الأفاضل وتمجد الأراذل، بينما يحتضن الموت أفضل من فينا وأنقاهم وأخلصهم وأجملهم وأتقاهم وأشدهم حبا للوطن، وإيمانا به، والقائمة تتسع، والغياب يحضر إذا ما كان المغيب بالموت جميلاً، يرحل جلال عامر، ويرحل عمار الشريعى، يرحل إبراهيم أصلان، يرحل خيرى شلبى، يرحل محمد الجندى، يرحل جيكا، يرحل الحسينى أبوضيف، يرحل عمرو سعد، يرحلون جميعاً ولا يبقى من تلك الفئة الفضلى إلا ما رحم ربى، ويظل الأمر موسداً إلى غير أهله، حتى تقوم «الساعة» أو «الثورة»، وكفى بنا داء أن نرى الموت معلماً، وكفى بنا داء أن نراه يفعل ما كان ينبغى للحياة أن تفعله، وحينما يفعل الموت ما يجب أن تفعله الحياة، فاعلم أننا نعيش فى قبر عظيم، فى انتظار «البعث».
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة