تصبح الحقيقة أسطورة إذا ما ساد الكذب، وعم الغش، واكتست الوجوه بمسوح المسكنة مخلفة وراءها قلوبا يابسة، وعقولا عفنة، وأرواحا خربة، لكن المعضلة المؤلمة هى أن القدر يشاء دائما أن يمتحن صدق الصادقين، وأن يقطع ألسنة حيات النصب التليفزيونى، مهشما أنيابها السامة الموبوءة ببرهان ساطع لا يقل بلاغة عن ظهور النبوءات، هذا البرهان هو الدم المطهر الذى إن مس طاهرا زاده ألقا ونقاوة، وإن مس مجرما كلله بوشاح الدنس الأبدى.
لا شىء حقيقيا فيما تراه إلا دماء هؤلاء الأبرار الذين صدقوا ما عاهدوا الوطن عليه، كل ما تراه أمامك زيف فى زيف، إلا هذه البقعة الحمراء التى لا يصدق وحيها المنزل إلا الأنقياء الأبرياء المخلصون. دم الحسينى أبو ضيف ممزوجا بدم «جيكا» ممزوجا بدم محمد الجندى، مضفرا بدماء عمرو سعد، تصنع الدماء لوحتها الخاصة، تميز الخبيث من الطيب، تخرس بالوعات الرذيلة المتفشية فى حياتنا الممسوخة، تقول لجاهل أبصر، وتقول للمجنون انتبه، وتقول للمغيب أدرك، وتقول للمخدوع قف.
وحدها الدماء تقول، وحدها الدماء تبهر، وحدها الدماء تفعل، بينما نقف جميعا كرد فعل، لا نساويها فى المقدار، إنما نسير معها فى الاتجاه، هنا تنتحر الفيزياء التقليدية، وتندحر القوانين الوضعية، وتتوارى نظريات مومياوات القنوات الفضائية، فقد خطت ثورتنا أساطيرها الخاصة، وأصبح كل شهيد معنى، وصارت كل نقطة دماء رمزا، يموت زياد بكير وأحمد بسيونى، ليؤكدا أن الثورة ثورة شباب واع يحب الفن والحياة والإبداع. يموت مينا دانيال ليثبت أن أقباط مصر الأوفياء كانوا فى طليعة ثورتنا دون طائفية بغيضة، ولا أجندات خاصة.
يموت عماد عفت ليثبت أن الثوار ليسوا «بلطجية»، وأن انتفاضة مجلس الوزراء كانت على حق. ويموت جيكا ليثبت وضاعة من ادّعوا أن مهاجمى مرسى خونة وكفرة وعملاء. ويموت الجندى وعمرو سعد والحسينى أبوضيف ليثبتوا أن أنصار التيار الشعبى الذين يموتون الآن هم أول من وقفوا مع مرسى فى حربه المستعرة مع أحمد شفيق، وليؤكدوا مجتمعين أن للتيار الشعبى وجودا قويا فى الشارع، عكس ما يشيعه الإخوان ومن تأخون من أن التيار الشعبى «فقير شعبيا»، فكم من الدماء ستسيل لتثبت أن الكاذبين كاذبون، وكم من أرواح ستزهق لنرى الحق حقا، والباطل باطلا.
لا يموت هؤلاء أبدا، بل قاتلهم هو الذى يموت، ولتنظر إلى الاشتباكات الدائرة الآن فى محيط قصر الاتحادية، لتعرف من الذى عاش، ومن الذى مات، فقد أصبح كل الثوار حقا «جيكا»، وأصبح كل شباب الصحفيين «الحسينى»، وانظر إلى مئات الشباب الذين تجمعوا حول بيت محمد الجندى منشدين الهتافات الحامية لتعرف أن شباب الدلتا بأكملهم قد تحولوا إلى «الجندى»، وهو ما حدث أيضا فى موت محمد كريستى، وعمرو سعد، فقد صارت روحهم أرواحا، وأصبحت ابتساماتهم أيقونات، وصارت خطواتهم فى المسيرات علامات يمشى على أثرها قصاصو أثر الوطن.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة