لو كان الأمر بيدى، لمنحت رموز النخبة، من كل التيارات، لا أستثنى منهم أحدًا، درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف فى "حتى".
وقبلما يتخيل القارئ، أن الأمر محض مزحة، أو تستدعى ذاكرته، ذاك الحوار الكوميدى بين أحمد مظهر، وصلاح ذو الفقار، فى فيلم "الأيدى الناعمة"، إذ تعجّب "سمو الأمير" من أن الدكتوراه التى حظى بها "سكرتيره الفقير" كانت عن رسالة علمية موضوعها استعمالات "حتى"، فإن هذا الحرف لغويًا، يعد أكثر الحروف ، تباينًا وتعددًا فى استخداماته، ما يجعله فى العربية الفصيحة، مثل "الجوكر" فى "الكوتشينة".
فى بعض الحالات يصبح "حتى" حرف ابتداء، ليس له محل، من الإعراب، كما فى جملة، "حتى المقربون يتنكرون لى"، أو كقول شاعرنا الأموى جرير، "فوا عجبًا حتى كُليبُ تسبُنى"، ويغدو تارةً حرف جر، كقوله تعالى: "سلامٌ هى حتى مطلعِ الفجر"، وقد يكون عطفًا، مثل "حارب القوم حتى أطفالهم"، أو نصبًا وتعليلا، كما فى "أجتهد حتى أنجح".
أيّما يكون، فهذى السطور ليست درسًا فى قواعد النحو والصرف، وبعيدًا عن الاستعمالات المتعددة للحرف الذى يتماهى فى الجملة، كلما تغيرت مواضعه منها، ويتلوّن حسب الظروف، مثلما تتلون الحرباوات، فإن مسوغات حصول النخبة المصرية على الدكتوراه، "أكرر لا أستثنى أحدًا"، تقتصر على "حتى كحرف نصب"، يأتى دائمًا للتعليل والتبرير، بمعنى لكى أو "من أجل".
على سبيل المثال، وفيما لا يبعد عن زخم اللحظة الراهنة، فإن التمعن فى التصريحات النخبوية، ذات العلاقة بالاستفتاء على الدستور المعطل ثم الدستور المعدل، يكشف عن أن رموز النخبة المصرية "مدمنو تبرير"، يعلقون كل شىء فى رقبة "حتى" التى صارت مثقلة تنوء بما تحمل من تبريرات، وربما آثام وخطايا.
جاء تعديل الدستور المعطل، أو بالأحرى التخلص منه، على طريقة "انسف حمامك القديم"، وأضيفت إلى المسودة تسع وتسعون مادة جديدة، جعلته مرشحًا لأن يدخل موسوعة الأرقام القياسية، باعتباره أطول دستور فى التاريخ، وأعيدت صياغة معظم المواد الأخرى.. وهذه بغير شك متغيرات جذرية وعميقة، لكنها رغم ذلك لم تدفع فريقى المعارضة والتأييد، إلى تغيير خطابهما التبريرى.
المؤيدون لـ "نعم" للدستور المعطل، طالما ملأوا أشداقهم بأن التصويت بنعم، عمل وطنى "حتى" تدور العجلة، ويتحقق الاستقرار، أو فرض شرعى "حتى" تكون كلمة الله هى العليا، أما الذين قالوا : لا، فقد تفيهقوا بأن رفض الدستور فرض عين، "حتى" لا تتأسس دولة الفاشية الثيوقراطية، ورفضًا لمثول المدنيين، أمام القضاء العسكرى.
وما هى إلا محض أشهر، حتى تبدلت الأدوار، فى لعبة كراسى موسيقية، يرقص الجميع فيها على "واحدة ونص"، أو على "المارشات"، فما قاله ذو لحية بطول قبضتين أمس، يردده اليوم ذو ياقة بيضاء، وما أفتى زيد بوجوبه، وارتأى عمرو تحريمه، صار يفتى به عمرو، ويحرّمه زيد.. وفى كل الحالات، يبرر هذا ويبرر ذاك، فيما الحرف "حتى" بقى هو هو.. بليدًا متنطعًا، يخرج من الشفاه فى سياقات ذات الجمل، بنفس الترتيب والتركيب، محتفظًا بدوره اللغوى.. والسياسى.
ووسط هذه الـ "حتى" وتلك، يضيع البسطاء، ويفقدون الطريق، وعبثًا ينقبون عن ناصح أمين، يهديهم سواء السبيل، "حتى" يصوتوا على الدستور بنعم أو بلا.. و"حتى" يفهموا مواد الوثيقة الجديدة، فهمًا مجردًا عن الأهواء والتبريرات، فهمًا يخلو من "حتى".
حقًا.. إن درجة الدكتوراه فى "حتى" هى ما يستحقه رموز النخبة السياسية، ولعلهم بعد تكريمهم بها، وبما أن المقال بدأ بفيلم "الأيدى الناعمة" فلا بأس إذن فى أن ينتهى بفيلم آخر، وهو "شارع الحب" وتحديدًا المشهد البديع، لعبد السلام النابلسى، إذا يتوسط أعضاء فرقة "حسب الله السادس عشر"، فيأمرهم أن يصفع كل منهم أخاه على وجهه.
الكل باطل، والكل مدنس.. مَن منا بغير خطيئة؟
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة