وما أدراك ما شوارع القاهرة فى وقت الذروة! رحلة عذاب حقيقية يزيد من صعوبتها أخلاق الناس التى أصبحت «زى الزفت»، حتى أصبح السائق الماهر هو من لا يجيد فنون القيادة، بل من يتجنب أخطاء الآخرين، وأصبحت السواقة مثل مصارعة «السومو» اليابانية، والأزمة الحقيقية أن كل مخطئ يتصور أنه على صواب والآخرين هم «الغلطانين»، وذنبك على جنبك إذا عاتبت سائق ميكروباص نط بسيارته أمامك، أو اقتربت من شاب متهور يلعب غرز بين السيارات، أما آخر «موضة مرورية» فهى السيارات التى تتعطل إجباريا أو بفعل فاعل فى مناطق عنق الزجاجة، فى مداخل الكبارى ومخانق الشوارع وفوق الكبارى العلوية، وتحجز خلفها طوابير من السيارات، ويلعب السائقون أكروبات لاجتياز السدة المرورية، وقالوا - والعلم عند الله - إن الإخوان هم السبب ويتعمدون العكننة على الناس وتعذيبهم، وللتأكيد على فشل الحكومة فى حل أزمة المرور، فيزداد غضبهم وثورتهم على فشلها، ويحنون لأيام رئيسهم المعزول الذى كان يزعم كذبا أنه نجح فى حل %70 من أزمة المرور، ولا أستبعد مؤامرة الإخوان المرورية، وإن كنت لا أملك دليلا، خصوصا أن السيارات لا تتعطل إلا فى المناطق المخنوقة.
رجال المرور يساهمون أحيانا فى صناعة الأزمة بكمائن وقت الذروة، والمفترض أن يتسلحوا بالخفة والرشاقة والمرونة، والاستعانة بالعناصر المدربة التى تجيد مهام التفتيش بجانب السرعة، فلا داعى - مثلا - أن يطلب من سائق رخصة السيارة بينما على الزجاج إستيكر المرور بالفحص، ولا مبرر لتضييق حارة المرور إلى سيارة واحدة، ويمكن أن تتنوع الكمائن فى أوقات غير الذروة إلا فى حالات الضرورة القصوى، بجانب تضييق الاشتباه والبحث العشوائى عن الجرائم والمخالفات، صحيح أن رجال المرور يعملون فى ظروف بالغة الصعوبة، ولكن عليهم التحلى بالصبر وضبط الأعصاب وتطبيق روح القانون فى الحالات التى تستوجب ذلك، والابتعاد عن التجهم والغلظة والشدة المبالغ فيها.
وتمتد الأزمة إلى سوق عكاظ المركبات.. المرسيدس جنب الكارو، وأمهات السيارات تسابق أحدث الموديلات، والنقل والصغير والكبير والكساحات، وعربات نقل القمامة والطوب والرمل والزلط التى تمطر بخيراتها من خلفها، والسيارات التى تلهث جريا خلف الإسعاف، والميكروباص الذى يدعو الناس الشر بالكف عن القر، وأصبح حزام الأمان فى خبر كان، ولا يحلو الرغى فى الموبايل إلا أثناء القيادة، أما «أبو مقطورة» الذى يتلوى كالثعبان فوق الدائرى وعلى الأتوستراد، فيلعب بنظرية الخداع، عندما يجنح ذيله ويلطش السيارات يمينا وشمالا، وبالطبع لا يمكن تنفيذ قرار منعه - الذى تأجل عدة سنوات - خوفا من ثورة السائقين.
المنظومة كلها غلط لأن أعداد السيارات التى تهيم على وجهها فى الشوارع أكبر من طاقتها الاستيعابية، ولم يخطر ببال من خطط لإنشاء العاصمة أن كل الشوارع تؤدى إلى القاهرة، حتى المدن الجديدة أصبحت «جراجا» خلفيا للقاهرة، تمدها بآلاف السيارات صباحا، وتسحبها بعد العصر، فأصبح الدائرى مزدحما مثل شارع قصر النيل، والأتوستراد ليس أفضل حالا من زنقة وكالة البلح، الصيف زى الشتا وأيام المدارس تشبه الإجازات، وخبراء المرور ساهرون حائرون ويفكرون فى جنون عن حلول عاجلة لأزمة صارت مستعصية، يمكن أن يفتحوا محاور جديدة أو يشقوا الطرق وغيرها من الحلول التقليدية.. ولكن ماذا يفعلون فى سلوكيات البشر المستعصية على الحل؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة