إنهم سرعان ما يتلاشون.
المهرجونْ.
يتطايرون كالزيوت العطرية، كشذى الهالِ والينسونْ.
صاخبونَ يتقافزون أولِ العرضِ.
ومع نزولِ الستارةْ.. يحزمون حقائب الجنونْ.
خيالات شاحبة، لقفزات خرقاء، على سجادة باهتة.
هى كل ما يتركونْ.
غناءٌ بغير حنجرة، ونظرةٌ من دونِ عيونْ.
هذه كلمات "بتصرف غير مخل بالمعنى" لشاعر الوجودية الألمانى "راينر رلكه" فى قصيدة لوصف مهرجى السيرك، أولئك الذين يوارون تحت ملامحهم وجعًا كبيرًا، وخلف الأصباغ الكثيفة الفاقعة حزنا مكتومًا.
حالة إنسانية مفعمة بالشجن، التقطها مبدعون منهم التشكيلى الأسبانى الأبرز "بابلو بيكاسو" الذى طالما اعتبر وجه المهرج، هو الأكثر تعبيرًا عن الأسى الذى يحبسه الإنسان الوحيد –أى إنسان- فى ذاته، ويغمده كسكين سريًا فى رئتيه، دون أن يجهر بصرخة الألم، لأن الناس قساة ليست تعنيهم "شؤونه التافهة".
كان "بيكاسو" ارتأى هذا الرأى، عقب زيارات متكررة، لسيرك "ميدرانو"، حيث تآلف مهرجو السيرك وإياه ففتحوا قلوبهم، فكشفوا له عما يوارون من جروح، ومن ثم انفعل فرسم لوحات كثيرة من أشهرها: "عائلة البهلوانات".
التفكير فى طبيعة عمل المهرج البهلوان، أو بهلول السلطان، كما يجىء فى التراث العربى، يثير بالضرورة تساؤلات بعضها ينعجن بالألم، على حال الإنسان، هذا الكائن الهش، الذى قد تحرمه الحياة بقسوة متناهية من حق الصراخ إذا يتألم، ومنها تساؤلات أخرى تتعلق بقدرة بعض البشر الاستثنائية على نفى وجيعة الأنا، ووأد صرخاتها كيلا تزعج المتفرجين.
أيما يكون، تبقى الحقيقة أن شخصية المهرج، قد أثارت مخيلة الكتاب والشعراء والأدباء، حتى أن عدد الكتب التى تطرقت إليها بلغ ما يزيد عن ستة عشرة ألفًا، وفى كل الكتابات، كان المهرج مجرد "مُضّحك" باستثناء كتابات نادرة، كرائعة "الملك لير" للأديب الإنجليزى "وليام شكسبير" حيث المهرج "ناقد سياسى ساخر"، يمرر رسائل تخلط الجد بالهزل، فيأمن العقاب!
غير أن الحالة الشكسبيرية، لم تتحقق فى الواقع، فالمهرج يبقى مهرجًا بهلوانًا بهلولا، هذه قيمته وذاك دوره الذى ليس له أن يتخطاهما.
وقد يحدث أن يستثقل الملوك حركات المهرجين، دونما سبب، فيمعنوا فى عقابهم، مثلما فعل السلطان المملوكى محمد بن قلاوون، الذى فشل مهرجه مرةً فى إضحاكه، فقيّده بساقية، فجعل ثورها يدور بأقصى سرعة، فتأخذ المسكين إلى أعماق النهر، فتجتاح المياه رئتيه، فيدنو إلى الموت، ومع اكتمال دورة الساقية يخرج، فيشهق شهقة هائلة، ليسحب شيئًا من الهواء، فتكتمل الدورة ثانيةً، فيغوص فى الماء مجددًا، فيما السلطان ينتشى طربًا وقهقهاته العالية تختلط بصراخات "البهلول"، مدة ساعتين، قرر بعدهما نفيه!
ومع تطور العصر، وانتهاء وظيفة "البهلول الرسمي" ظهر "البهلول المتطوع" الذى ربما يجد فى الدور لذة، أو لعله يتقمصه تزلفًا إلى أولى الأمر والنهى، ممن فى قربهم جنات وعيون، أو لأى سبب آخر.
العبقرى الأمريكى "آرنيست همنغواى" يفسر الأمر بمقولته: "إن البشرية تعشق السيرك، والساسة لا يستغنون عن المهرج فى العصر الحديث، لكن المهرج "العصرى" أصبح مثقفًا، أو موظفا رسميًا أو مذيعا تلفزيونيا أو حتى رئيس تحرير".
والظاهر أن ثمة رغبة لدى السلاطين، فى أن يحتشد "البهاليل" حولهم، فهم يأنسون بالذين ينافقون ويتقافزون ويوزعون النكات، والكارثة أن بعضًا من أولئك، يعتبرون مذلة الامتهان بين يدى السلطان – أى سلطان- شرفًا مرومًا، فيخفضون له جناح الذل، وقد يعملون على استقراء سريرته، فيجعلون على ألسنتهم أفكاره، فيصبحون أبواقًا لا مثقفين، وقد يبالغون فيرفعون لمقامه السامى نصائح ومقترحات حوله شؤون البلاد أو ما ينبغى اتخاذه من قرارات، وهو أمر يثلج صدره ويرضيه، لكن الرضا قد ينقلب غضبا ساطعًا، إذا سقط "البهلول" فى موضع زلل، حتى لو من باب الخطأ والنسيان، وعندئذٍ لا يتورع السلطان عن التنكيل به مع أول هفوة
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة