اختارها ربها وحدها، كى تحمل هذا الحمل الثقيل.. عذراء بتول تخرج على أهلها بطفلٍ وليد، تخبرهم أنه ابنها، وأنها أنجبته بلا رجل.. ما أثقل المهمة! وما أصعب أن تكون امرأة وحدها فى موقف كهذا! لكن الله اختار أن تقوم به امرأةٌ وحيدة، لأنه يعرف أنها على قدر المسؤولية.
هكذا خلق الله النساء، وهكذا جعلهن، قويات ومسؤولات، حارسات للحياة، حتى فى أوقات الوحدة.
«وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّه اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ»، اصطفاها ربها واصطفاها، لم تكن إذن بنصف عقل رجل ولا همته، بل أمًّا لنبى بعثه ربه كلمة حق فى زمنٍ صعب، يدعو للمحبة وبالمحبة، أقسى البشر.
ربما لم تبعث امرأة كنبىّ، لكن كم من نبىٍّ برزت بجواره امرأة، الله وحده يعلم قدر النساء وحقيقة دورهن فى هذا العالم الصعب، وحده منحهن الرحمة والإنصاف، ذكّرنا دوما بهذا، فهو يعرف أن ما من بشرٍ سيفعل وأنه على امتداد الزمان ستكون النساء أبعد ما تكون عن حقوقهن.
النساء يقاتلن لأجل العدل، لأن كل النساء سواء جرّبن الأمومة بمعناها التقليدى أو لم يفعلن، فهن أمهات بالفطرة، والأم لابد ترغب فى حياة آمنة وعادلة لأطفالها ولأطفال الآخرين، وفى السلام بشكل عام، لأنه الضمانة الوحيدة كى يحيا أبناؤها للأبد بلا خوف، هكذا هو قدر النساء، وقدرهن أيضًا الإهمال، وعدم العرفان، بل الأكثر: الاحتقار، والتنازل عن حقوقهن على أول طاولة مفاوضات، لا فرق بين تيارٍ وآخر، فحقوق النساء للأسف لم تكن أبداً أولوية، حتى لدى كثير من النساء أنفسهن! فإما امرأة تناضل لأجل حقوق الوطن بكل فئاته وتعتبر أن حقوقها مرحلة لاحقة، لأن الآخرين دوماً أهم، وأن التضحية «المؤقتة» بحقوقها ستثمر مجتمعاً عادلاً، أو امرأة تعتقد، كما تم تربيتها، أنها ليست ذات حق، أو امرأة لم تنتبه لكل ذلك أصلاً!!
صرخنا فى بداية الحراك الثورى فى مصر منذ عامين، بأن النساء هن أول من يدفع ثمن الثورات، وآخر من يجنى المكتسبات، بل إن أكثر التجارب أتت بنتائج مؤسفة، بعد أن خسرت النساء حقوقاً كانت أصلاً لديهن، وقلنا إن كل ما حققته المرأة المصرية فى المائة عام الماضية، ولم يرق حتى لمستوى تطلعاتها، هو مهدد بالخسارة، لكن لم يسمع أحد، ولم يكترث أحد، وها هو العام الثانى من الثورة يختتم آلامه، بحقوق مهدرة يوماً بعد الآخر، بل يتم اغتيال تاريخ النساء المصريات، دون أن يقاتل لأجله أحد، دون أن تعرف نساء مصر أنهن تمتعن بحقوق لأن أخريات حاربن لأجل تلك الحقوق، وأنها كما جاءت ستذهب لو لم يكن قتال حقيقى لأجل الإبقاء عليها، بل النضال لأجل الأكثر، كى نحيا جميعاً فى مجتمع يحترمنا، لا نتسول فيه الحق ولا الكرامة.
ما حدث مع الرائدة درية شفيق، هو بلورة فجة لنظرة المجتمع ولنظام كامل للمرأة المصرية، نظرة بدأت فى التدنى منذ زمن، لكنها أخذت طريقها الآن لأرض الواقع وللإجراءات، ودرية شفيق هى سبب كونكن الآن صاحبات حق فى التصويت الانتخابى يا بنات مصر، اعرفن تاريخكن، واعرفن كم كن قويات جداتكن، وكيف نهضن بمصر، ومهدن لكن الطريق كى تكن على قدم مساواة، أنتن الآن على أبواب خسارتها مع كل رجل فى هذا الوطن.. درية شفيق التى تهان الآن وتمسح من الذاكرة الوطنية «الرسمية»، هى بداية لمسح آثار جهاد المرأة المصرية منذ بدايات الدولة المصرية الحديثة، ومقدمة لإلغائكن تماماً فى القريب العاجل من خريطة الوطن.
درية وغيرها هى النموذج الذى تريد طيور الظلام لكن ألا تعرفنه، يتمنون لو اختفين من التاريخ للأبد، لكن هيهات، فما ضاع العمل الطيب لأنه يورث دوماً لمن يستحقه.
سلامٌ عليكِ يا مريم، يا من كنت أماً لمن جاء بالمحبة.
ولترقد روحك يا درية شفيق فى سلام، فقد أديت دوراً عظيماً سيظل نبراساً لأجيال تحترم الحق والحرية والإنسانية والمساواة والعدل، ولك من بنات جيلى كل الامتنان.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة