قوائم الاشتباه السياسى لم تترك أحداً، والذين صنعوها بالأمس ذاقوا مرارتها اليوم وأصابتهم ألسنة التشهير والتشويه ومن أعمالهم سُلط عليهم، بعد أن كانوا يتصورون أنهم فى منأى عنها.. قوائم سوداء للسياسيين والإعلاميين والصحفيين والفنانين والرياضيين ورجال الأعمال والنشطاء والمؤيدين والمعارضين، واتهامات بالتخوين والعمالة وعدم الوطنية ومساندة الثورة المضادة وإعادة إنتاج النظام السابق وإثارة الفتن والتآمر وقلب نظام الحكم وغيرها من الاتهامات المرسلة المطاطة، التى لو ثبتت صحتها يمكن أن تقود صاحبها إلى غرفة الإعدام، وكل قائمة تضع خصومها فى خانة «أعداء الثورة»، وكأن الثورة لم يكن لها أصدقاء بل أعداء فقط، عمدوا إلى تصفية بعضهم البعض على طريقة «النار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله»، ويالها من نار سوف تأتى على بقية الأخضر واليابس إن لم يتم إطفاؤها.
الاشتباه السياسى خطر داهم على الحرية والديمقراطية فى مرحلة الولادة المتعثرة، وكانت آخر بروفة فى حصار مدينة الإنتاج الإعلامى، ونالت الاتهامات معظم مقدمى برامج التوك شو الشهيرة، مع ألفاظ وعبارات ورسوم لا تليق بأخلاق المسلم ولا بسماحة الإسلام، وأنهم يصنعون الفتن ويفسدون فى الأرض مثل سحرة فرعون ويخرجون على شرع الله، وغير ذلك من أمور لا علاقة لها بالدين، وإنما التوظيف السياسى للإسلام وجرجرة الخصوم إلى فتن كبرى تمهد الطريق لاغتيالات معنوية وجسدية بفتاوى دينية مثلما كان يحدث فى السبعينيات، والخطر الأكبر يكمن فى الشباب الغاضب والمتحمس الذين يتم تحريكهم بالريموت كنترول، وأصبحت أعدادهم كبيرة ومتزايدة، ومن الصعب السيطرة على تصرفاتهم فى الشارع، والمؤكد أن بعض الإعلاميين لم يشعروا بخطورتها وقسوتها، إلا بعد أن تزينت القوائم السوداء بصورهم وأسمائهم.
لن ينجو أحد من توسيع دوائر الاشتباه السياسى، فمن كان يتصور -مثلا- أنها ستشمل أسماء رموز ثورية بارزة، مثل البرادعى وحمدين صباحى وجورج إسحاق وأبوالغار وعمرو موسى وغيرهم من قادة جبهة الإنقاذ، من يصدق أنهم وضعوهم الآن فى خانة الفلول بعد أن كانوا يتصدرون صفوف الثوار، والخطر يهدد مستقبل الوطن إذا استمرت الحرب مشتعلة، بين حلفاء الأمس الذين انقلبوا على أنفسهم فأصبحوا خصوما، وبعد أن وحدهم الميدان فرقتهم السلطة التى استحوذ عليها الإخوان حتى النخاع، ولم يتركوا لشركائهم حتى الفتات، وانقلب شعار «المشاركة» إلى «مغالبة»، وانشقت مصر نصفين بين مسلمين وكفار، وخونة وأحرار.
الاشتباه السياسى كان مرحلة لها ما يبررها عند قيام الثورة، أما استمراره فيكشف «حالة الأنانية» التى كانت مختبئة وراء الشعارات والأحضان والقبلات، بينما يجهز كل طرف خنجراً ليغرسه فى ظهور الآخرين، وكان من المفترض أن تجتاز البلاد مرحلة الصخب والضجيج ومزادات اللعب على المشاعر والمتاجرة بالثورة والدين، وتعبر إلى الهدوء والاستقرار والتنمية والبناء، لكن سقطت الأقنعة سريعاً، وأصبحت مصر تسير خطوتين للوراء كلما تقدمت خطوة للأمام، وكأن الزمن مازال مربوطا على بوابات 25 يناير، رافعا نفس الأساليب والشعارات رافضا أن يتقدم فى اتجاه دولة العدالة والقانون، التى لا تأخذ الناس بالشبهات والشائعات واتهامات العمالة والتخوين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة