يعتقد البعض أن أحداث التاريخ تسير منفصلة، فى حين أن ترابطها لا يغيب عن صاحب عقل، ويعتقد البعض أن كل ما آلت إليه الأوضاع فى بلدنا هو محض أحداث تعتبر قفزات أكثر من كونها تحمل تسلسلاً منطقياً، وهو ما يجافى الحقيقة بشكلٍ كامل. صحيح.. أنه ما من بلورةٍ سحرية يمكن النظر إليها لنرى الغد، لكن «صاحب العقل يميز»، وكثيرون من مفكرينا رأوا اليوم منذ زمنٍ بعيد، كلٌ بطريقته، وكلٌ فى زمنه الخاص، لكنهم فى النهاية رسموا الخطوط العريضة لليوم قبل أن يحل علينا ضيفاً ثقيلاً يعلم الله وحده متى يرحل.
عرفنا نحن الجيل الذى ولد مع نصر أكتوبر أن ذلك النصر كان أكثر من مجرد عبور إلى الأرض المغتصبة، وأكثر من مجرد استرجاع سيناء الحبيبة، كان بكل وضوح استعادة للكرامة التى سُرِقَت منا فى هزيمة 1967، نصر دفع ثمنه كل بيتٍ بطريقته.. رجال أفنوا أحلى سنين عمرهم فى ست سنوات كاملة من حرب الاستنزاف، وشباب آخرون عادوا شهداءً، وزوجات ترملت، وأبناء تيتموا، وأموال كثيرة ذهبت للمجهود الحربى، فلم تبخل مصر أبداً على استعادة كرامتها المهدرة، وقد فعلت خير ما يكون، حيث انتصرنا نصراً أجبر القوى الدولية على إعادة حساباتها، وهذا ما يجهله الجيل الذى وُلِدَ بعد حرب أكتوبر بكثير! الأسبوع الماضى أفرجت وزارة الخارجية الأمريكية عن وثائق سرية للمرة الأولى تتناول الفترة بين عامى 1973 و1976، حيث ذروة ما وصل إليه الصراع العربى الإسرائيلى، بعد حرب استنزاف طويلة، وتبين الوثائق أن إقدام مصر على خوض الحرب كان مفاجأة للمخابرات الأمريكية والإسرائيلية «بالطبع» بكل المقاييس، مفاجأة استدعت ضمن ما استدعت أن تغير الولايات المتحدة سياستها فى المنطقة العربية، بما يضمن ألا تكرر مصر ما فعلته مرة أخرى، ما يعنى زوال إسرائيل، التى بذلت الولايات المتحدة جهوداً جبارة كى تحميها من الانهيار بسبب العبور المصرى لسيناء، وتضمن ذلك العمل على تغيير مفاهيم لدى المصريين، بدعمٍ من الولايات المتحدة فى صورة مساعدات مالية، للعمل على تحقيق اتفاقية سلام تضمن أمن إسرائيل.
النصر العظيم حين تحقق فى 1973، تحقق بإرادتنا واجتهادنا وعملنا، وبإيماننا بقدرتنا على تحقيق النصر.. قبل كل شىء، وبإيماننا بأنفسنا كشعب عظيم انتصر لإرادة الحياة على مدار آلاف السنين، أى أن النصر لم يكن منحة ولم يأت صدفة ولا نتيجة لتحالفات دولية، القصد.. النصر الذى تحقق يوم 6 أكتوبر 1973 لا يزال فى الحقيقة يترك أثره حتى اليوم، أثرٌ يتجلى فى كل محاولات الإيقاع بمصر فى شرك التخلف والتراجع مئات السنين عن نهضة العصر الحديث الذى لحقت به، صدقوا ذلك أو ارفضوا، لكن الأمر فى الحقيقة هو كذلك، المشكلة.. كل المشكلة أن انهزاماً بدأ يسير مع النصر كتفاً بكتف، بدا واضحاً لكل من يعى حقائق الأمور، انهزاماً دفع ثمنه العارفون علناً، ودفع ثمنه الجاهلون ضمنا، هى هزيمة تمتد للأسف منذ انتبه العالم لنصرٍ حققناه، فقرر الراغبون فى الاستيلاء على إدارة العالم ألا نكرره أبداً، فى حين لا نزال نحن ندفع ثمنه دون أن نعى بأننا لا نزال وفقاً له منتصرون.
إرادة الحياة هى ما ينبغى أن ندعمه الآن، لدى كل فرد فى جيلٍ لم يسعفه الحظ ليتذوق معنى الانتصار، حقيقة أن تكون مصر عظيمة، وأهمية ذلك لأنها بالفعل عظيمة، إرادة الحياة هى ما ينبغى أن نشحن به الذاكرة للجيل الذى عاش الانتصار وتذوقه بعد هزيمةٍ موجعة، ولجيلنا الذى نشأ وتربى على الاحتفال بنصرٍ هو تأكيد لعظمة شعب مصر.
إرادة الحياة لمصر والمصريين، هى الانتصار الحقيقى الآن، لا ينبغى أبداً أن نتحول لشعبٍ من الشهداء، فرض العين أن نكون أحياءً ننعم بالحرية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة