لأن العلاقة بين الشرطة والناس أصبحت مثل القنبلة الموقوتة التى تنفجر لأهون الأسباب، بات السؤال الضرورى هو: من ينزع فتيل التوتر حتى يشعر الناس بالأمان والطمأنينة، وتسترد الشرطة ثقتها فى نفسها وثقة المجتمع فيها، بدلا من حالة التحفز والترصد التى تجعل العلاقة بين الطرفين مثل الإخوة الأعداء ؟
أولا: ممارسات الشرطة قبل ثورة يناير هى التى تحرك الهواجس خوفا من عودتها بجبروتها وغطرستها وانتهاكها لحقوق الإنسان، ولم يعد عند الناس أدنى رصيد لقبول أية تجاوزات على غرار ما كان يحدث فى الماضى، فيكون رد الفعل عنيفا حتى لو كان حجم الخطأ صغيرا، مما يعمق الجراح ويصيب أفراد الشرطة بحالة من الإحباط والتراخى واللامبالاة، والنتيجة هى أن الأيدى المرتعشة لا تستطيع أن تحقق الأمن لنفسها ولا لغيرها.
ثانيا: لم تنجح الشرطة حتى الآن فى ملأ الفراغ، بعد سقوط سياسة العنف المفرط الذى كان يمارس على نطاق واسع قبل الثورة، بترسيخ مبدأ سيادة القانون بعد الثورة، ولم تطرح الداخلية إستراتيجيتها الجديدة للنقاش المجتمعى، وانشغلت فى الجرى وراء دفتر أحوال الحوادث اليومية، دون أن تتضح معالم خطة شاملة لاستعادة الأمن تدريجيا، خلال برنامج زمنى محدد.
ثالثا: تأثرت الشرطة كثيرا بالضغوط التى تمارس ضدها، وتولد لدى كثيرين شعور بأنها استبدلت رجال العهد القديم الذين كانت تحابيهم برجال النظام الجديد الذين تخافهم، فمواكب الوزراء هى نفس المواكب، والتشريفات هى نفس التشريفات، والحراسات هى نفس الحراسات، و"اللى له ظهر، ما يضربش على بطنه"، والأمثلة كثيرة وآخرها حالة الذعر التى أصابت مديرية أمن الشرقية بسبب المشاجرة التى وقعت بين أحد الضباط وابن مسئول فى حزب الحرية والعدالة.
رابعا: كسر هيبة الشرطة بعد تكرار حوادث الاعتداء على الأقسام والضباط، وأصبح المشهد المألوف هو قيام الأهالى بحصار الأقسام لتهريب المتهمين فى قضايا جنائية، والأكثر إيلاما أن وزارة الداخلية المسئولة عن الأمن تعيش فى حماية دبابات الجيش، وتغلق الشوارع المؤدية إليها بالأسلاك الشائكة والجدران الأسمنتية، وكأنها فى حالة حرب.
خامسا: الهجوم الشرس الذى تتعرض له الشرطة فى وسائل الإعلام والذى يصل إلى حد نصب المشانق لأفرادها دون استقصاء أو استجلاء للحقيقة، وكذلك حملة تكسير العظام التى قادها بعض أعضاء البرلمان المنحل ضد وزير الداخلية، التى مست هيبته فى مواجهة مرؤسيه وجعلته يعمل فى ظروف بالغة التعقيد والصعوبة، وإن كان الوزير قد نجح بصبره وكياسته فى امتصاص كثير من الضربات والصدمات.
يمكن القول أن الخوف من عودة شبح حبيب العادلى، هو الذى يخلق التحفز الشديد ضد الشرطة، ويجعل مستصغر الشرر حرائق كبيرة، فتصبح مشاجرة عادية بين محام وضابط فى قسم أول مدينة نصر، معركة حربية ضارية، يسقط فيها جرحى من الطرفين، واستدعى الضابط قوات الأمن المركزى، واستغاث المحامى بزملاء المهنة، وصدرت البيانات العسكرية من الطرفين، وداست الأحذية المتسخة كتب القانون الحزينة، التى رسمت للطرفين طرق الحصول على الحقوق بالقانون، فانتحر القانون وتاهت الحقيقة.
والحل ؟
يبدأ من عند الشرطة بأن تتبنى سياسات واضحة المعالم للتعامل مع الجماهير، أهم بنودها احترام حقوق الإنسان قولا وفعلا، فلا يهان مواطن ولا تهدر كرامته، وأن يكون القانون هو الفيصل والحكم، فقد انتهى إلى غير رجعة عصر رجل الشرطة الغليظ القلب واليد واللسان، ويجب أن يحل محله الضابط الذى يحترم ثقافة حقوق الإنسان، ويلتزم بحدود القانون وضوابطه، وأن يكون ذلك تحت رقابة صارمة من البرلمان - بعد عودته - ومن جمعيات حقوق الإنسان والمجتمع المدنى ووسائل الإعلام والقضاء والنيابة العامة.
فى فرنسا - مثلا - وهى الدولة رقم واحد فى العالم فى تعامل الشرطة مع المواطنين حسب معايير الأمم المتحدة، يذهب رجال الشرطة إلى دور الحضانات فى الأيام الأولى للعام الدراسى، يقدمون أقلاما ملونة وبالونات وكراسات كهدايا للأطفال ليترسخ فى أذهانهم حب الشرطة منذ نعومة أظافرهم، وعندما مات أحد الضباط وهو يطفئ حريقا هائلا، طبعوا صورته على البوسترات والتيشيرتات، وجعلوه بطلا قوميا.. فأين هذه الصورة الرائعة من قناص العيون وقتلة الشهداء عندنا وكم حجم المجهود والعمل المطلوب للوصول إلى معدلات مقبولة ؟
الحل يبدأ من عند الشرطة، بأن يشعر المواطن أنه عندما يدخل القسم يحتمى به من الخوف، لا أن يموت من الخوف، وإن الضابط أو أمين الشرطة الذى يستقبله من طينة البشر، وليس كيانا متغطرسا وشتاما ومتعاليا، وإن غرف الحجز والتحقيق أماكن آدمية وعادية وليست زنازين أو مقابر تحت الأرض، وأن يستبدل رجال الشرطة طرقهم القديمة البالية للحصول على الاعتراف، من الضرب والتعذيب والاتهامات المزيفة والمرسلة، إلى تقصى الحقائق وجمع المعلومات والطرق الحديثة فى الاستجواب والمناقشة.
مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة.. والشرطة لم تضع قدميها بعد على الخطوة الأولى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة