تعيش مصر حالة غريبة من نوعها على مستوى العالم، حيث أصبح لدينا تخمة وإفراط فى كل شىء إلا العمل والإنتاج، بعد أن تحول الشعب المصرى إلى فقهاء قانونين، وخبراء، ومحللين سياسيين، وناشطين وغيرها من المهن التى هبطت على مصر بعد الثورة وأصبح الناس يتسابقون إلى امتهانها دون أن يكونوا أهلاً لها إلا فيما ندر، وكأن التعليم فى عهد مبارك كان متخصص فى إنتاج عباقرة فى الكلام واللعب بالألفاظ وتشويه عقول الناس.
للأسف أصبحت وسائل الإعلام تفيض علينا كل مساء بسيل من المهاترات والصراعات التى تعبر عن وجهة نظر المذيعين والضيوف فقط، ولا تحمل للمشاهد سوى جرعة الإحباط اليومية والحسرة والندم على الوقت الذى قضاه فى متابعة هذا البرنامج أو ذلك.
هذا الكم الكبير والسيل العارم الذى يهجم على بيوتنا فى كل مساء لا يقدم للمواطن أى شىء يثمن أو يغنى من جهل، أو فقر، بل كلما زاد استماع المواطن إلى هذه البرامج كلما ازداد تشوها وتخبطا وإحباطاً، فالفضائيات لم ترحم الوطن والمواطن وتكتفى بإفساد الليل وتعكير صفو المساء، بل أصبحت تلاحقه فى ساعات الصباح لتفسد عليه يومه كما أفسدت عليه مساءه بعد أن أصبحت تتافس فى تقديم توك "تشويه" صباحى على غرار المسائى بنفس الوجوه وكأن هؤلاء المدَعون بأنهم خبراء وفقهاء ونشطاء قدر مكتوب على الشعب المصرى، أينما فتحت الشاشات تجدهم يصدموك بنفاقهم والدفاع عن مصالحهم، يتحدثون باسم الوطن ويدعون أنهم يدافعون عن مصالحه وهم أبعد ما يكونون عنها، بل هم السبب فى إغراق الوطن بالمشاكل بعد أن أصبحت السفسطة والجدل والهجوم على الآخرين مهنة تدر عوائد مالية مجزية.
لقد كشفت أزمة قرار الرئيس محمد مرسى بعودة مجلس الشعب أن الخبراء والفقهاء ليسوا أكثر من أشخاص يدافعون عن مصالحهم وانتمائهم فتشاهد على أحد القنوات ما يسمى بفقهاء القانون يتحدثون من أعماقهم المصلحية وليس المعرفية عن بطلان قرار الرئيس ويهدد ويتوعدون الرئيس إذا لم يصدر أمر بإلغاء القرار، متناسين أن الثورة المصرية المجيدة هى التى منحتهم القوة التى يتحدثون بها وسمحت لهم بإطلاق السنتهم المسمومة على كل شىء لا يعجبهم بعد أن كانوا لا يجرؤن على النطق بكلمة فى عهد المخلوع، وبالرغم من ذلك يحقدون على الثورة ويتمنون فشلها، فى نفس التوقيت تجد فقيها دستوريا آخر يتحدث عن قانونية قرار الرئيس ويهاجم الآخرين ويفند ما قاله الطرف الأول.
أمام هذا المشهد الذى تفيض به علينا الفضائيات عبر برامج التوك "تشويه" كل مساء ماذا يفعل المواطن المصرى الذى لا يملك معلومات قانونية ويتطلع إلى إنسان يقدم له المعلومة المجردة وليس الأهواء الشخصية، للأسف لا يجد سوى أشخاصا ومذيعين يتبارون فى الهدم والتنكيل بالوطن ويطلقون رصاصات قاتلة على المجتمع ثم يخرجون بعد البرنامج يقولون نحن لسنا مع طرف ضد الآخر ولا علاقة لنا بالسياسة ونحن نريد بناء المجتمع.
ولا ندرى أى أمة يمكن أن تتقدم أو تبنى وتعمر وسط هذا الصراخ والضجيج وسيل الفقهاء والخبراء والمحللين الذين يقدمون لها جرعتين يوميا من التشويه والإحباط، إحداهما مسائية والأخرى صباحية وكأنها واجب يومى مقرر على الشعب المصرى، من مجموعة من الشخصيات يغيرون آرائهم ومبادئهم وانتمائهم كما يغيرون بزتهم للانتقال من فضائية إلى أخرى.
مشكلة مصر لم تعد فى الصراع بين الرئيس مرسى والمجلس العسكرى فقط، بل فى إصرار المنافقين الذين يطلقون على أنفسهم فقهاء ومحللين وخبراء على تأجيج الأحداث وإثارة الأزمات وحرص الفضائيات على منحهم الفرصة لكى يذيقوا الشعب جرعة الإحباط والتشويه اليومية حتى يبقى الموقف السياسى مشتعل حتى يضمنوا تواجدهم على الساحة، لأن أمثال هؤلاء لا مكان لهم فى دولة مستقرة تتطلع إلى العمل والرفاهية.
فهل توقف وسائل الإعلام هذا الغثاء وتساهم فى صناعة المجد للوطن بدلاً من صناعة فقهاء لا يملكون من الفقه شيئا، وتبحث عن الأخبار الإيجابية التى تبعث الأمل فى المجتمع، مثل خبر الطالبة المصرية بجامعة المنيا التى تقارع العاملين فى وكالة ناسا وتنجح فى تقديم كشف علمى جديد أذهل العلماء، ولكن وسائل الإعلام المصرية تجاهلت الحدث، ولم يتم استضافتها فى أى من برامج التوك شو وكأن هذه الطالبة من إسرائيل، وليست من مصر، نتمنى أن تتحول برامج التوك "تشويه" إلى برامج تنوير وتطوير وأن تستضف أناسا يقدمون أفكارا وإبداعا لحل مشاكل الوطن ومعلومات مفيدة تساعد المشاهدين وليس جدل يحطم الهمم ويشعل الفتن.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة