أمامنا كثير من الوقت حتى نستوعب الدروس التى تعطينا إياها الثورة عند كل منعطف، أو نقطة فاصلة، أو مفترق طرق، أو محنة، أو اختبار.
لقد علمتنا الثورة ألاَّ تبوحَ بسرها إلا لمن يطلب الشهادة من أجلها، أو من يذوب فيها عشقًا، أو من يراها مصيرًا ومستقبلاً، لذلك تستبد بى الحيرة والدهشة ممَّن يجاهرون بالحديث حول فشلها أو قرب نهايتها، لأننى لا أراهم قد تعلموا من جسارة قيامها على غير موعد، ولم يفسروا لنا معجزتها، أو ما أحدثته من آثار عميقة وتغيير فى بنية هذا الشعب وروحه، والذى تمنحه كل يوم زادًا من المقاومة، وعبقرية فى الالتفاف على كل محاولات الاحتواء والإجهاض، واستيعاب كل مناورات ومؤامرات الصغار والمرتزقة وأصحاب الطابور الخامس المنتشر فى كل المؤسسات ومراكز الأعصاب والأحزاب الكارتونية.
الثورة تعطينا كل يوم وسائل حماية جديدة، وتحول بعض ما يصيبنا من داءٍ إلى دواء يزيد مناعتنا، إذ جعلت من تفاعلات كل القوى خلال الشهور الماضية عمليات فرز لا تتوقف، تكشف لنا كل يوم عيوب أنفسنا وأخطاء ممارساتنا وخطايا الذين اندسوا بيننا وتصوروا أنهم قادرون على اختطاف الثورة والذهاب بها بعيدًا إلى حيث يريد من يخشون تأثيرها عليهم فى الخارج، أو تهديدها مصالحهم وأوضاعهم فى الداخل، أو من يريدون تحويلها إلى مجرد فلكلور مصرى، ويجعلون من ميادينها مجرد مزار سياحى، بعد أن حاولوا ـ بكل الوسائل ـ تشويه ميدان التحرير الذى تحول فى العالم كله إلى رمز للثورة وقبلة للثوار.
الثورة تدخل مرحلة جديدة.. لا نقول إننا نحتاج فيها إلى أن نصمد، لأننا أثبتنا أن الصمود هو بضاعتنا التى لا تتلف، لكنها تحتم علينا المراجعة واستيعاب الدروس، وأولها أن الثورة جاءت لتغيير أحوال الناس إلى الأفضل، وأن مصالحهم فى تحقيق أهدافها، وأن الوقيعة بين "الثورة" و"سلوك الثوار" وبين قطاعات من الناس تحتاج أسبابها إلى تدبر، أيضًا علينا فى هذه المرحلة أن نرفع شعار "من كان له مغنم من الثورة قد قضاه فليذهب به ويرحل، ومن كان يؤمن بأهداف الثورة لتغيير أحوال الناس فليقبض على حلمه ويصمد".
والثورة - التى وحدت المصريين وساوت بينهم فى الميدان الذى لم يفرق بين لون وجنس ونوع وعقيدة - تجعلنا فى هذه المرحلة نلفظ ما انسقنا إليه بفعل فاعل، من فرز طائفى بدأ بفتنة الاستفتاء على الإعلان الدستورى، وجعلنا الحلال والحرام والإيمان والكفر لغة الحوار السياسى، والبرنامج الانتخابى الذى نقدمه للناس، وانتهت بكارثة اختيار لجنة تأسيسية لوضع دستور مصر المستقبل على أساس طائفى بين دعاة الإسلام السياسى ودعاة الدولة المدنية، وهى عملية كاذبة، وخطرة، ولعب بالنار.
الأمر كذلك يحتاج إلى وقفة لتقييم أداء كل القوى السياسية فى المرحلة الماضية.. وكان غياب الحزب الوطنى الحاكم من المشهد السياسى يعنى غياب كل الأحزاب القديمة، وبلا استثناء، فقد كانت جميعها جزءًا من النظام وأدمنت خدمته عبر وسائط عديدة من الأجهزة المحترفة، وأدت مشاركتها فى المشاورات السياسية فى المرحلة الانتقالية الماضية إلى الإفساد وخلط الأوراق والتحايل على أهداف الثورة وتحجيمها، وآن الأوان أن نواجه هذا الأمر بوضوح، فكل من يجلس مع هؤلاء باسم التوافق يمارس لعبة الدجل السياسى.
ونداء إلى كل القوى السياسية الجديدة وشباب الثورة الحقيقيين الذين لم يتلوثوا ولم يتركوا الميادين إلى الفضائيات، أن يتوحدوا عبر حوار حقيقى وجاد، تلملم فيه هذه الأحزاب الجديدة أشلاءها وأفكارها، وكذلك الائتلافات الشبابية الانشطارية التى سمحت بأن تقوم على تخومها كيانات تم اختراقها واستخدامها لتشويه الأداء وإعاقة ميلاد قيادة معبرة تعبيرًا حقيقيًّا عنهم.
ويحتاج الحديث مراجعات ضرورية لقوى الإسلام السياسى، خاصة جماعة الإخوان، لشرح وتفصيل يطول، أما عمّا فى جعبة المجلس العسكرى فمصيره إلى نقطة نهاية أو صدام. لكن تظل الثورة أبقى وأقوى من الجميع؛ لأنها لم تَبُحْ بكل أسرارها بعد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة