العنوان المشترك بين التاريخين هو الصحافة، والمسافة من هناك إلى هنا سبعة عشر عاما، فى الأولى كانت انتفاضة الصحفيين ضد العدوان على حرية الصحافة، وفى الثانية كانت انتفاضة مجلس الشورى لتأكيد وراثة الهيمنة على مقادير الصحف القومية. فى الأولى أيضا كان النظام المستبد قد بدأ ينال منه القلق، وأخذ يعيد ترتيب أوراقه، وكلما شعر بالضعف تزداد قبضته إحكاما، ونشطت دولة الفساد تحمى نفسها بالقوانين، التى استخدمتها سلاحا فى العدوان على الصحافة. وفى الثانية جاء الشورى الوريث بعد شهور مضت على ثورة شعبية بدأت شعارها بالحرية، ودفعت من أجل إيمانها به الآلاف من الشهداء والضحايا ـ ولا تزال ـ لكن شهوة الحكم طغت بعد أن وجد الشورى كعكة الصحافة القومية تسقط فى حجره، فقرر أن يلتهمها لتصبح سلاحه فى التمكين والسيطرة على غرار سابقيه، لكن بعملية تجميل لتناسب حالة الثورة، وتحافظ على هذا الوضع الشاذ الذى لا يوجد له مثيل فى العالم، أى أن يمتلك البرلمان صحفا عامة.
فى السبت العاشر من يونيو 1995 كانت الجمعية العمومية للصحفيين على قلب رجل واحد فى مواجهة القانون 93، الذى أطلقت عليه الأمة «قانون اغتيال الصحافة وحماية الفساد»، والتى استمرت فى الانعقاد لأكثر من عام، وفى حالة «حشد قتال»، كما وصفها الأستاذ هيكل، وبعث إليها برسالته الشهيرة، وقال: «إن القانون أقرب إلى أجواء ارتكاب جريمة أكثر منه فعل تشريع، وأنه يعكس أزمة سلطة شاخت فى مواقعها»، فى هذه الأزمة كنا نواجه نظاما مستبدا، لكن كانت صدورنا عارية ونعرف ماذا نريد.. لم نخش تصريحات مبارك وقتها أن القانون صدر ليبقى، وأن الدولة لا تبيع «ترمس»، وأن الصحفيين ليست على رأسهم ريشة. وواجهنا أكاذيب دهاقنة النظام الذين خرجوا ليسوقوا جريمتهم، ويحدثوا وقيعة بين الصحافة والشعب، وانضم الرأى العام وكل القوى السياسية لجهود إسقاط هذا القانون، لإدراكهم أن حرية الصحافة ليست حرية الصحفيين، بل هى ضمانة للشعب كله فى أن يعبر عن رأيه وأن يشارك، وسقطت مقولات د. فوزية عبد الستار التى كانت ترأس اللجنة الدستورية والتشريعية، واعتبرت القانون يحافظ على الحقوق وحريات الأفراد وحرمة الحياة الخاصة، وكمال الشاذلى الذى وصفه بواضع الحدود بين الحرية والتعدى باسمها، وأكد أحمد أبوزيد زعيم الأغلبية أن القانون يحمى الأغلبية من الصحفيين الشرفاء! كل ماكينة النظام وجبروته الذى استخدم كل الحيل وكل وسائل الترهيب والترغيب، لم يستطع أن ينال من إرادة الصحفيين، وانتصر صمودهم الأسطورى وسقطت هذه التعديلات .. لكن لم ينته أبدا تربص النظام بالصحافة وبالحريات العامة.
وفى يوم الأحد الماضى العاشر من يونيو الجارى ينتفض شورى ما بعد الثورة لا ليحدثنا عن تحرير الإعلام والصحافة والإعداد لمنظومة تشريعات وقوانين تليق بتضحيات المصريين من أجل الحرية، وتليق بتاريخ ومكانة الصحافة المصرية ولا عن تشكيل لجنة ذات مصداقية تذهب لتعرف ما هى هموم ومشاكل العاملين فى المؤسسات الصحفية أو تتقصى الحقائق فيما جرى من نهب منظم مازالت رموزه آمنين فى بيوتهم، أو كيف ساهمت هذه المنابر فى التضليل، عندما كان يتحكم فى اختيار قياداتها رئيس الحزب الحاكم وأسرته وأجهزة الأمن، بل انتفض كى يدخلنا بيت الطاعة، ويقودنا إلى حيث يذهب بنا الخوف منه، ويفرض علينا إرادته باسم معايير اختيار رؤساء التحرير وباسم لجان يختارها ويعينها وبأساليب مهينة ومفتقدة للمهنية والكرامة، إنها طبخة مغلفة بطعم العسل لكنها مسمومة وقاتلة، وتكرس الأوضاع الموروثة والمتخلفة ولا تؤدى إلى استقلال الصحافة أو أن يكون الصحفيون شركاء فى إدارة مؤسساتهم أو أن يخضعوا لتقييم حقيقى.
فى يونيو منذ 17 عاما توحدنا وقاومنا وانتصرنا لكرامتنا وكرامة المهنة ورفضنا العدوان على الصحافة.. واليوم بعد هذه الثورة العظيمة التى كسرت حاجز الخوف لا يمكن أن نقبل أن يساومنا أحد على حقوق انتزعها المصريون باستحقاقات الدم، وعلى حريات ليست منة أو فضلا من أحد، أو أن يوقع بنا فى كمين زرع فتنة المعايير.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة