قاد سيارته بصعوبة عند مَنزَل الكوبرى، كانت السيارات متكدسة بصورة غير معقولة، سأل الله ألا تكون حادثة جديدة ذهبت ضحيتها أرواح، أو أن تكون مفاجأة غير متوقعة كتلك التى يحفل بها الطريق أى طريق فى مصر، مفاجآت تجعلك تدعو الله كل صباح أن يكون الطريق عادياً مجرد طريق يوصل إلى العمل، المهم.. سارت السيارة ببطءٍ شديدٍ أضاع من الوقت ما كان يمكن أن يكون مفيداً بأى صورة إلا الانتظار فى طابور سير يبدو بلا نهاية، ولأنه احترف إضاعة الوقت فى السيارة، لم ينتبه لكم قد مر منه، كل ما أراحه أنه فى لحظةٍ ما قاربت أزمة السير على الانتهاء، لا لأن الطريق أصبح خالياً لا قدر الله، وإنما لأن السيارة أصبحت تسير نوعاً ما، ولأنه برغم اعتياده مرور الوقت بلا معنى داخل سيارته فإنه لم يتخل عن فضوله اليومى لمعرفة سبب ازدحام الطريق؛ قرر أن يبحث كالمعتاد عن سبب اليوم، والمفاجأة.. كل المفاجأة أنه لم يجد ما يلفت النظر فى الطريق سوى عربات كارو تسير خلف بعضها، ثم تتوقف كل منها فى مكان، ويستعد من يركبونها لبيع بضاعتهم، أما البضاعة يا سادة فكانت: البطيخ!، نعم.. بطيخ ليس إلا، هو ما تسبب فى تأخره لأكثر من ساعة عن عمله، وتذكر فى الليلة السابقة وهو عائد إلى بيته، حين لفتت نظره عربات كارو كثيرة على جانبى الطريق أيضاً لا تحمل سوى البطيخ!، صحيح أن «البطيخ» فاكهة صيفية، وأن موسمها قد حان، لكن لمَ كل هؤلاء الباعة ؟ الكل يبيع البطيخ.. ولا شىء سوى البطيخ!.
البطيخ يملأ ربوع المحروسة، البطيخ ولا شىء سواه!، نحب نحن فى مصر «توحد» المزاج العام، فتجد المصريين على اختلاف مشاربهم يحبون فى لحظةٍ ما شيئاً ما أو شخصاً، أو يكرهون شيئاً أو شخصاً، ثم بعدها بفترةٍ غير طويلة ينسون ما/من كانوا يحبون أو.. يكرهون! تُرى هل يعكس إقبال المصريين على شراء البطيخ هذا الصيف شعوراً ما داخلهم؟.
البطيخ الذى يملأ شوارع القاهرة الآن، بلا أى منطق، هو نفسه الذى يسكن عقول المصريين، الفارق.. أن الذى يملأ شوارعهم هو فاكهة من أرض الواقع، أما الذى يسكن عقولهم فهو من نسج خيالاتهم!، يعتقد المصريون أن اختيار الرئيس القادم/الرئيس المصرى الأول فى انتخابات إعادة جاءت هى نفسها بعد انتخابات نتائجها فاجأت الجميع، هو كمثل البطيخة التى يشترونها، فإما تكون «حمرة» أو «قرعة»!، يعتقدون أن الحظ سيلعب دوراً، لأن القادم مثل البطيخة يحمل فى جوفه ما لا يدل عليه خارجه، ونسوا أنهم هم أنفسهم حين يشترون بطيخهم الصيفى، يقومون بالضرب على قشرته الخارجية وتقريب آذانهم من الثمرة الضخمة، وهم يفعلون ذلك لأن خبرتهم الإنسانية علمتهم أن الصوت المنبعث من داخل الثمرة سيساعدهم على الأغلب فى كشف ما فى جوفها!.
صحيح أنه لا أحد يعلم الغيب، ولا أحد بوسعه معرفة خبايا الصدور، لكننا نقول دوماً إن «ربنا عرفوه بالعقل»، فلما نلغى إعمال العقل هنا وننتظر أن تفاجئنا «البطيخة» بمكنونها سواء كانت «حمرة» أو «قرعة»؟!، لقد فعلناها يا سادة، خرج المصريون من بيوتهم وذهبوا إلى صناديق الانتخاب، بنسبة لا يستهان بها، فى صيفٍ حارق، ووسط بلبلة يصعب فيها الاختيار، رغم ذلك فعلها المصريون، الذين أدركوا أن صوتهم سيختار الرئيس، ويجب أن يعرفوا أن اختيار الرئيس يحمل ما هو أعمق بكثير من شراء بطيخة: هناك برامج، ووعود، ولغة خطاب، يجب أن يقيمها هؤلاء قبل الاختيار، هناك أحلام يحق لهم أن يرسموها وأن يطلبوا من الرئيس أن يجعلها واقعاً، ومن قبلها مصالح عليه أن يدافع عنها، علينا أن نُعَلم الناس بأنهم لا بد أن يستمعوا ويقيموا كل كلمة، ثم يسجلونها لأن يوماً قريباً سيحاسبون «الرئيس» عليها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة