اعتدنا نحن - المصريين- على قبول ما يفرضه علينا الواقع من مصائب بسبب القهر الخارجى أو بسبب الحماقة الذاتية متخذين من مقولة «ولرب ضارة نافعة» سلوى ومبررا لمصيبتنا.
الضارة هذه المرة ليست نافعة بالمرة ولا قدرة لعبارات الصبر المصرية على تبريرها أو تجميلها، أوقعتنا حماقتنا وحماقة النخبة وعدم ثقتها فى نفسها فى مأزق اختيار حاكم مصر ما بين فاشيتين، فاشية الحكم السابق بفساده وجبروته، والفاشية المتسترة بالعقيدة والدين والحكم باسم السماء بكل انتهازيتها وفسادها وتجبرها.
الحديث عن الفاشية الأولى لا يحتاج لكلمات كثيرة ليس لقلة خطورتها وإنما لوضوحها ومعرفة المصريين بها جيداً ومعاناتهم منها طوال ثلاثين عاما مضت، هى فاشية حكم فاسد لا تحتاج إلى بذل الكلمات للكشف عنها أو لإثباتها.
الثانية، وهى لا تقل خطورة عن الأولى أو ربما هى الأخطر، هى الفاشية الدينية أو على وجه الدقة الفاشية المتسترة بالدين «فأنا من المتدينين الذين يعتقدون بالجوهر التقدمى للدين» هى جماعة الإخوان، ولا يعنينى تسترهم بالجزء الثانى من اسمهم وهو المسلمين، هى بالنسبة لى جماعة لها من التاريخ الأسود الانتهازى المراوغ ما يكفينى لرفضها والجهاد ضدها من أجل حماية مصر.
خطورة الفاشية الثانية فى أمرين:
الأول فى قدرتها على التستر بالدين وارتداء أعضائها مسحة الإيمان وإيهام البسطاء من أبناء هذه الأمة بأنهم لسان التقوى والإيمان ومبعوثو السماء لانتشالهم من فقرهم والقضاء على أزماتهم، ووراء هذا يحصلون على تأييد المأزومين فى صراعهم على السلطة مع الفاشية الأولى، بينما يمارسون فى الواقع نفس الفساد والهيمنة وتقويض المجتمع فى تقسيمة ثابتة ما بين معسكرين محددين.. معسكر الأغنياء ومعسكر الفقراء، والفرق ما بين أغنياء الفاشية الأولى وأغنياء الفاشية الثانية أن الأولى تعتمد على العنف المباشر فى إرغام الفقراء على قبول هذه التقسيمة والتسليم بها، والثانية تعتمد على المسلمات الدينية بقدر الله والقسمة والنصيب كمخدر يجعل قبول الفقراء لوضعهم أمراً أكثر سهولة وقبولاً مضيفين لذلك صمامات أمان من الهبات والعطايا والصدقات يضمنون بها بقاء الوضع، وفى النهاية يظل المجتمع رهينة برغبة الفاشيتين فى تقسيمه الى معسكرين: أغنياء أقلية وفقراء أغلبية.
خطر الفاشية المتسترة بالدين الثانى، يكمن فى خبراتها الكبيرة بالانتهازية السياسية والدعاية الوهمية لنفسها كجماعة مناضلة مكافحة، فهم محترفون فى تجميل السم بالعسل، هم أول من تصدوا فى الثلاثينيات للجهاد المسلح ضد الإنجليز، وظلوا يراقبون المعركة وعندما أوشكت المعركة على الانتهاء وأيقنوا انتصار المعسكر الوطنى قفزوا فى المحطة الأخيرة إلى المقدمة واتخذوا السبل للإيعاز بقيادتهم العمل الوطنى المسلح ضد الإنجليز، رغم أنهم كانوا طوال الوقت ضد الفكرة، بل كانت لهم من الممارسات الفعلية ما يعيقها.. هم نفس الجماعة التى ظلت طوال فترة مبارك تقف ضد القوى السياسية الصاعدة فى انتقاد سلطة الحاكم المطلقة فى الشارع، وكانوا يتصدون بجانب بلطجية السلطة للمتظاهرين الذين يهتفون بسقوط السلطة فى الشارع، البلطجية فى دفاع مباشر عن الحكم، والحاكم وأعضاء الجماعة فى دفاع غير مباشر بدعوى عدم رفع المتظاهرين شعارات دينية، وقبل الثورة بأيام، وبعد تيقنهم من نجاح نضال المصريين كعادتهم قفزوا فى المقدمة واستخدموا مشاهد سجن بعض أعضائهم كدليل على كفاحهم الوطنى.
والحقيقة أن هذه المشاهد كانت وليدة صراع فوقى بين الجماعة والسلطة على مغازلة الحلفاء الأمريكان والغرب وصراع على القوى المادية للفاشيتين بدليل أن معظم المسجونين من أعضاء الجماعة لم يرتادوا السجون فى أحداث مواجهة ميدانية مع السلطة وإنما من خلال القبض عليهم من بيوتهم بسبب تحريات عن علاقات مالية وتنظيمية يراها النظام السابق منافسة له، اللهم إلا - إحقاقاً للحق- بعض الشباب الإخوانى الذين تأثروا بالواقع المحيط ويومها اعتبرهم قادة الجماعة من الخارجين على السمع والطاعة.
وطوال هذه الفترة كانت قادة الجماعة لا تكل ولا تمل من إرسال رسائل الأمان للسلطة الحاكمة وإعلانها الولاء للحكم، ورسائل المرشد التى يؤكد فيها تأييده لمبارك غير خفية، ورسائل التنازل لرموز السلطة فى بعض الدوائر الانتخابية أيضاً غير خفية.. الخلاصة أنهم كانوا فى صراع علوى على السيطرة على الشعب وليس من أجل الشعب.
نعود للمأزق الذى أوقعتنا فيه النخبة ما بين الفاشيتين عندما شرذمت نفسها، ولم تتحد وراء المرشح القومى الوحيد فى الانتخابات.. هذا المأزق الذى جعل البعض يفضلون الإبقاء على النظام السابق على الوقوع تحت حكم الفاشية المتسترة بالدين وجعلهم يفكرون فى التصويت لرمزه، وهو خيار قاس وأشبه بالانتحار.
هو مأزق لا حل له سوى الثقة بأن ما حدث فى يناير ثورة غير مكتملة، فقد عزلت رموز النظام ولم تعزل النظام، فلا توجد ثورة تثور على حكم من أجل دخول الانتخابات بقوانينه ومن خلال قواعد صناديقه، نحن نرفض هذا النظام بديمقراطيته الزائفة وصناديقه المضللة، وليس لنا إلا تحرير مصر وفرض حكم الشعب وديمقراطيته وصناديق الاقتراع الصادقة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة