لا يترك الله نبتة غرسها، لا يطفئ الله نورا أوقده، والله متمم مشيئته، والله غالب على أمره، أيامٌ تمر، تراوحها يد القدير، شهورٌ تمضى، تتبدل فيها الأحوال، وما كان الله ليخلف وعده، وما كان ربك نسيا، وما كان الله بظلام للعبيد.
آيات بينات، فصيحات صائحات، تفيض بها سورة يوسف، تجسد بأدبية شفيفة راقية، مأساة فادحة، إذ يظلم الأخ أخاه، وتستبدل باليد التى تمتد بالمحبة يد تلوثها الدماء، ما أقسى الغبن إن كان من الإخوة، وما أبشعه إن تغلف بالجحود والنكران والصلابة، طفل يحبه أبوه، فيغار منه إخوته، فيتهمونه، ويحاربونه، ويخططون لقتله، حتى إذا ما دنت لهم الفرصة، رق أحدهم مخففا حكمهم الجهول من القتل إلى التشريد، يعيش المشرد معذبا مبتلى، يعانى من آلام الفرقة ولوعة الاشتياق إلى حضن الأب النبى، تقذف به الأمواج، فيقابل الخبيث والطيب، يعاين المحن محنا، ويدخل فى التجربة تتبعها التجربة.
كلما أصابته مصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، إلى أعلى مراتب النبوة يصعد، ليدخل فى أقسى درجات الاختبار، وهى الاختبار بالنعمات بعد الاختبار بالنقمات، لكن روحه الطاهرة النقية الأبية تجتاز العقبات، وتخرج من كل تجربة أقوى وأطهر، لتتحقق حكمته جل وعلا، فلا تكريم إلا بعد تعسف، ولا تطهير إلا بعد إثم ومعاناة.
إن ضاقت بك الدنيا ورأيت الغل فى عين إخوتك يحيط بك ولا يتركك، فقط انظر إلى قصة نبى الله يوسف عليه السلام، لتعلم أن المشيئة حاضرة، والمشيئة التى تعطى ما كانت لتترك عطيتها دون اختبار للمختارين، وإن لم تثبت عند الاختبار سقطت عنك الأمانة لأنك بتهاويك أثبت أنك لم تكن مستحقا لها من الأساس، هذا هو يوسف، يعانى الأمرين من إخوته، ويذوق مر العذاب من أقرب الناس إليه، يحمل لهم الخير، مختارا ليتمم وعد إبراهيم بالحفاظ على ألا تخرج النبوة من ذريته، ومع ذلك آذاه إخوته وأبعدوه عن حضن أبيه شهورا وسنين وعقودا، لكنه امتثل لقوله جل وعلا: «ولاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ» فكان له من الدنيا نصيب ومن الآخرة نصيب، ومن حضن أبيه نصيب.
يشاء الله أن يتمم حكمته، أن يأتى إخوة يوسف إليه، وهو العزيز، وهم الأذلاء، يشاء الله أن تنقلب الآية فيصبح الضعيف قويا، والقوى ضعيفا، فلا يغتر المختار بقوته، ولا يذل الضعيف بضعفه، كان يوسف يحمل طوق النجاة من الذل ومهانة والتشرد والمجاعة، ولأنهم إخوته ولأنه يحبهم أكرمهم وعفا عنهم متطهرا متسامحا متساميا، لأنه وعى جيدا قول أبيه: «وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ»، فاستحق أن تتحقق فيه الآية القائلة: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا»، فيارب اجعل القرآن جلاء لأعيننا، وشفاء لصدرونا، وشاحذا لهمتنا، ونبراسا لثورتنا، آمين.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة