محمد فودة

محمد فودة يكتب.. «ركلام» فيلم يعيد سينما المرأة التى غابت منذ ربع قرن

الجمعة، 24 فبراير 2012 08:04 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

هذا فيلم جديد يظهر فى وقت عصيب تمر به البلاد، يحاول الفن فيه ألاَّ يتوقف وألاَّ يكون فى الظل.. فيلم «ركلام» ينجح فى تدمير الحصار الذى فرض على عالم الفن والسينما، ويعيد من خلاله كيانًا كنا نخشى أن يتراجع، خاصة أن توقف عجلة الإنتاج فى جميع المجالات خلال الشهور السابقة، كان إيذانًا بأن الخريطة المصرية قد تغيرت وأن على كل مجال أن يعيد تفكيره ويطرح مجموعة من البدائل.. إلا أن السينما تحاول بصمود ألا تتغير، وكان «ركلام» تأكيدًا لذلك.. الفيلم درامى اجتماعى كتبه مصطفى السبكى، ويطرح من خلاله قضية شائكة وسؤالاً مهمّا.. يلح ويدور على الألسنة وقد يرجع بدون جدوى، ولنبدأ بهذا السؤال وهو: من الجانى ومن المجنى عليه؟ فالمجتمع - أى مجتمع - كثيرًا ما يزن القضايا من خلال رؤية غير عادلة وغير منطقية، وأما القضية الشائكة فتتعلق بقصة شبكة دعارة تضم مجموعة من الفتيات وضعتهن الظروف الاجتماعية فى هذا الوضع الذى لا بديل له.. وإذ بهن مهددات باستمرار وينتظرن خاتمة المطاف فيما لا تحمد عقباه.. فالنهاية دائمًا وراء قفص الاتهام.. وتدور الأحداث حيث علا رامى تتزعم شبكة الدعارة التى تضم فتيات مثل غادة عبدالرازق ورانيا يوسف وإنجى خطاب ودعاء سيف الدين. ومن هذا المكان الذى تدور فيه الأحداث يدور أكثر من استفهام حتى تتحول الإجابات إلى صدى فارع فى هواء طلق.. غادة عبدالرازق تتورط فى ظروف اجتماعية صعبة وتضطرها ظروفها هذه إلى هذا الطريق.. والمؤسف أن تنتهى الأحداث والمتاهات إلى القدر المحتوم حيث يتم القبض عليهن ويتم تحويلهن إلى بوليس الآداب. والحقيقة أن هذه النوعية من الأفلام التى تناقش أزمات صعبة تحتاج إلى عمق فى الرؤية وحساسية كبيرة فى الإخراج.. وقد تمكن على رجب من تحقيق عناصر الرؤية السينمائية اللاهثة من مشهد لآخر، ومن حوار لآخر، وإذ بنا أمام مجموعة من المشاهد المتعاقبة الشديدة الدقة فى صياغة القضية الصعبة التى لابد أنها لا تتوقف عند حدود أوضاع اجتماعية بقدر ما تناقش فلسفة استمرار وضع بشرى فى أى مكان وزمان، لا يملك سوى أن تحركه الأقدار مثلما تحرك أصابع اللاعب قطع الشطرنج، هكذا تكون لافتة الحياة فى هذه المتاهة اللامتناهية، المخرج على رجب كان فى أعلى حالاته وهو يغوص فى نفسية البطلة غادة عبدالرازق وكيف يستخرج منها بكل هدوء هذه الموجات المتصارعة فى موهبتها المعطاءة، وخبرتها الجياشة.. كانت غادة أقرب إلى فرس جامح، ولكنها تعرف كيف تروض هذا الكائن بداخلها، فحينًا يلتهم هذا الفرس كل من حوله، وحينًا يهدأ ليتيح للآخرين فرصة فى اللحاق بالسباق الفنى الحى.. غادة عبدالرازق فى هذا الفيلم تصعد إلى مستوى أعلى وترتقى بأدائها حتى تظن أنها ترسم لوحة تشكيلية بثقة وبمنتهى الدقة، وفى النهاية تخرج لنا بهذا الإبداع المتكامل الحى الذى طغى بروحه على كل تفاصيل العمل.. وبرغم ما أثير حول دور الفنانة رانيا يوسف وأن هناك اضطهادًا قد طالها فى هذا العمل، فإنها أدت دورها بدقة ووعى لكل التفاصيل. ونجاحها أتى من تلقائيتها، وبعدها عن التكلف أو الاصطناع، وهذا الفيلم يضاف إلى رصيدها الفنى، هذا الفيلم يعيد إلى السينما «سينما المرأة» بعد سنوات طويلة من طغيان النجوم الرجال على مقدرات الفيلم المصرى، حتى لقد توارت قضايا المرأة وأصبح المجتمع وكأنه يدور فى نصف اتجاه فقط. أو كأنه يلف ويدور حول وجوه بعينها، وأعترف بأن كاتب القصة والسيناريو والحوار، مصطفى السبكى، أجاد فى رسم هذه الشخصيات النسائية، وقد أعادنى إلى سينما إحسان عبدالقدوس وهو أقدر من توغل فى نفسية بنت حواء ببراعة، وأعماله جميعها كانت تحليلاً ذكيّا لصعود وهبوط المرأة فى المجتمع. وإذا استمر مصطفى السبكى على هذا الخط غير المألوف حاليًا فإنه سيسد فجوة عانينا منها سنين وسوف يكون بارعًا فى نسج تفاصيل اجتماعية تؤرق نمو المجتمع لأنها مبنية على أحكام خاطئة ولا تتصف بالحياد.. أما النجمات المشاركات فى الفيلم بعد غادة ورانيا فبرغم قصر أدوارهن فإنهن تركن بصمة تنشر فى أرجاء الأحداث بسمة حتى لا تبقى رمادية أو غائمة وسط ضباب واكتئاب.. إنجى خطاب ودعاء سيف الدين نجمتان واعدتان، ولهما شخصيتاهما اللتان تميزتا فيهما.. أما النجمة مادلين طبر فقد ظهرت فى حوار هادئ داعم، ويعطى دلالة على خبرتها وعمق موهبتها، كذلك كانت إيناس مكى النجمة التى غابت عنا سنوات. لتكون عودتها بهذا الإيحاء معجونة بموهبة مميزة وفارقة وخسارة أن تغيب عن عالم السينما.. أما أدوار النجوم الرجال فقد تميزت بالكثافة والعمق معًا.. النجم الكوميدى الساخر ضياء الميرغنى حالة إبداعية تزداد جمالاً من فيلم لآخر ومن شخصية إلى أخرى.. رضا حامد كوميديان شديد التميز والخصوصية، وأتمنى أن يستثمر المخرجون طاقاته المختزنة فى أعمال ضخمة تجسد موهبته الكبيرة.. وصبرى فواز الذى انطلق منذ سنوات كالصاروخ، يحاول أن يتجدد ويتغير ولا يتكلس، وهذه أهم عناصر الوصول إلى النجومية والتى أعتقد أنه قد قارب إلى الصعود إليها باجتهاده وحده وبفضل تجويده.. أما النجمة علا رامى فقد عادت إلينا فى فيلم كأنه ينتظرها، أجادت دورها بثقة وحنكة وحكمة فى اختيار كل أطراف الحوار.. وقد جسدت الدور الأزمة، المرأة الحائرة بين عملها غير اللائق اجتماعيّا وبين نفسيتها داخليّا ونظرتها إلى نفسها وبعد ذلك نظرة المجتمع، وكيف يراها. وقد برع المصور منسى عبدالفتاح فى تصوير مميز جرىء سلس.
هذا الفيلم اجتماعى، وقد كان من بداية اسمه يخشى أن يكون خادشًا للحياء، ولكنه يناقش قضية شديدة الحيوية طالت فئة كبيرة من المجتمع المصرى وبنت عليها أشياء كثيرة، لأول مرة تخترق السينما المصرية عالم الكباريهات بهذه المباشرة.. وكان لابد ألاَّ نغمض أعيننا أمام هذه المجتمعات وهذه الكيانات التى تعيش فيها وحولها.. وكيف تتصاعد أزمات من هنا وهناك من خلال ذلك.
ولهذا فإن قيمة الفيلم فى اختراقه لهذا الوباء القاسى الذى يطارد المجتمع، ولكن كانت مناقشته فنيّا فى منتهى الحكمة، فقد صار فيلما لا تخدش منه الأسرة. ويشاهده كل أفراد الأسرة بحرية وبدون أى حرج، وقد كان الدكتور سيد خطاب مدير الرقابة على المصنفات شديدًا مقتحمًا شجاعًا حين أعلن أن الفيلم لا يستحق أن يوصم بوصفه «للكبار فقط».. بل هو لكل الأسرة، وهذا ليس من فراغ.
على رجب مخرج يهتم بأدق التفاصيل وبهدوء شديد يرسم خريطة جديدة لسينما المرأة التى غابت عنا منذ ربع قرن تقريبا، باستثناء أفلام بسيطة لم تكن هى المسيطرة على السينما آنذاك.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة