احتدمت فى مصر على ضفاف الجدل الدائر حول بعض مواد الدستور، معركة متعلقة بالشريعة الإسلامية، والدوران حول كلمة المبادئ ثم الإحالة فى موضع آخر إلى أحكام ومذاهب أهل السنة والجماعة، بما يكشف عن تباين فى التصور لدى كل فريق من الفرق المنخرطة فى حالة الاستقطاب السياسى، الذى ملته الجماهير وضجرت من مشاهده المتكررة.
كان هناك اتفاق عام على المادة الثانية كما وردت فى دستور 1971، ومن قبله دستور 1923، باعتبار صيغة مبادئ الشريعة كافية ووافية، فى الدلالة على المرجعية التشريعية، المستقرة فى أهم وثيقة فى حياة الأمة، الدستور.
وعرفت المحكمة الدستورية العليا المبادئ، بأنها الأحكام قطعية الثبوت قطعية الدلالة، والتى تلتقى مع أرقى المبادئ الإنسانية التى تعارفت عليها كل الأمم المتحضرة، ما دفع تلك الأمم أن تضم الشريعة الإسلامية ضمن مصادر التشريعات والقوانين، فى مؤتمر عقد فى لاهاى عام 1936، يعتمدها مصدراً من مصادر الفقه الحديث.
إن اختزال الشريعة فى جزء منها يسمى الحدود، ظلم لها، إن الشريعة طريقة أنزلها ربنا لعباده، لحفظ مقاصد الشريعة، حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وهى كما يقول ابن القيم رحمه الله: (والشريعة مبناها وأساسها، يقوم على الحكم ومصالح العباد فى المعاش والمعاد، وهى عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل) و"آه" من التأويل، وكم عرفنا عبر تاريخنا تأويلات ابتعدت عن حقائق الدين، وشوهت سماحته ومقاصده.
تترجم الخلافات الحالية بين الفصائل السياسية فى مصر، حول نص المادة الثانية، الخلاف فى التصور حول شكل الحكم فى مصر لعقود قادمة، بين من يتصور الشريعة تصوراً مختزلاً فى اجتهاد ما، قد يطيح بدولة المؤسسات التى تنتهج الديمقراطية، والفصل بين السلطات، والرضا الشعبى، حيث هذا الفريق الذى يسجن الشريعة فى تصوره، دون أن يعلمنا من هو الأجدر والأقدر، بتحديد المصلحة والمفسدة، وما ضوابط الموازنة بين تلك المصالح والمفاسد، التى نخرج بعدها بالتشريع الصالح لواقعنا وظروفه، وهل الأمر متروك لفقهاء الدين، دون فقهاء الدنيا، فى كل العلوم والفنون والآداب، والذى وصفهم ربنا بأهل الذكر.
إن المبالغة فى الخوف على هوية الدولة، باعتماد شكل قد يعبر عن اختيار نفسى يفتقر للرشد وفقه الواقع لدى البعض، لن يصنع توافقاً أو استقراراً، تماماً كما يعبر حزب النور فى بيانه، الذى يتحدث عن رفضه إضافة كلمة مبادئ، ولا يراها كافية، قائلاً إنه لولا وجود17 سلفياً ممثلاً فى الجمعية التأسيسية، لتم الاتفاق على دستور مخالف لهوية الشعب المصرى، بما يعنى أن الحزب هو الوصى الأمين على هوية الشعب، التى حماها وجود ممثلين له فى الجمعية التأسيسية.
إن هذا البيان بهذا الشكل، إهانة للشعب المصرى الذى عرف هويته جيداً، وحافظ عليها عبر العصور، ولم يكن ينتظر ممثلى الحزب لحمايتها والدفاع عنها كما يتصور، والذى توافقت شرائحه مسلمين وأقباط، على احترام نص المادة الثانية عبر عقود كما كانت، لا كما يريد هؤلاء، الذين يعتبرون أنفسهم الوكيل الحصرى للشريعة، من أجل إكراه الناس على تصورهم الضيق لها.
يقول العلامة الغزالى: "إن الحرية هى الصديق الأول لديننا، وعندما ينهض الحكم فى بلادنا على أساس الرضا الشعبى والتجاوب مع إرادة الجماهير، فلن يكون إلحاد أو انحراف، سيكون الحكم إسلامياً، فتلك رغبة الكثرة الساحقة".
إن الرضا والتوافق واحترام التنوع، لا ينطلق إلا من دستور يعبر عن الجميع، ورؤية واسعة تصنع المظلة التى تتسع للجميع ليس لدينا معركة حول الشريعة، التى لا يختلف على مرجعيتها أحد، ولن يرهبنا تصوركم الضيق عن معارضتكم، فالمعركة ليست حول الشريعة، وإنما حول إكراه الناس بسيف الأغلبية، على تصور ينافى حقيقة تلك الشريعة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة