نبيل شرف الدين

الراية البيضاء

السبت، 20 أكتوبر 2012 08:43 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كثيراً ما أجريت جراحات، أدخل غرفة العمليات مبتسماً أداعب الأطباء، وأخرج بكل ثقة كأننى كنت فى نزهة، لكن هذه المرة تعترينى مشاعر مختلطة، بين الإحساس بمرارات العمر وقد حطّت على قلبى دفعة واحدة، والأسى من رفاق العمر، ممن يسميهم البسطاء (النخبة)، معظمهم كانوا رفاق مشوار العمر، عرفت بعضهم منذ كنا تلاميذ فى الثانوية، وعرفت آخرين فى محطات شتى فى الحياة، وتسكعنا معًا على المقاهى، ووقفنا أمام (فاترينات) المحال وفى عيوننا حسرة أننا نريد هذا القميص أو ذاك الحذاء، لكن لأننا لم نكن نملك ثمنه كنا ننظر لبعضنا البعض ونتضاحك وننسى الأمر.

كثير منهم صاروا الآن نجومًا، يعلم الله أننى لا أحسدهم، لكن شيوخ المهنة يدركون أن أقلهم موهبة صار أفضل من (صاحبكم) لأسباب أجهلها، لكن ما أعرفه أننى كنت مسئولاً عن ذلك بخيارات لم تكن بعضها بيدى، فمثلاً حين بدأت حياتى ضابط شرطة، وهذا لم اختره، بل كان قرار الوالد رحمه الله وسامحه، ولم يكن عمرى حينها يتجاوز السابعة عشر، وهى سنّ دون النضج بكثير، لكن قدر الله وما شاء فعل.

وهناك خيارات أخرى كنت أنا المسئول عنها عن سبق إصرار، مثل انحيازى الفطرى والحاسم لكل أصحاب المظالم، لا يعنينى دينهم أو ملتهم أو غير ذلك، فالمهم أن ضميرى كان ينتفض حيال أى مظلمة، ولم أترك وظيفة مرموقة اجتماعيا هى مدير مكتب وزير الداخلية ـ ضد نصائح الأهل والأصدقاء ـ لالتحق بالصحافة كى أكون (طبالاً) للسلاطين، فقد كان بوسعى أن أقود فرقة موسيقية كاملة من الطبالين الذين أصبحوا الآن بقدرة قادر (ثواراً) و(زعماء) وما شابه.. سامحهم الله، فلا يجشمون أنفسهم مجرد عناء اتصال هاتفى فى المحن أو حتى الأعياد والمناسبات الاجتماعية.. هكذا كانت الحياة ومازالت وستظل.. وهكذا كان البشر وسيبقون.

أقول هذا وأنا على عتبات منعطفٍ حادٍ فى حياتى، إذ ليس بينى وبين لقاء ربى سوى خطوة، أننى رأيت وسمعت كثيرين منهم يعرضون خدماتهم على أجهزة الأمن فى عهد مبارك، بل إن بعضهم كانوا يطلبون منى التوسط لدى هذا الضابط أو ذلك الجهاز، وكانوا يصدمون حين أرد عليهم بأن علاقتى بأجهزة الأمن "ليست على ما يرام"، لأن استقالتى فسرها وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلى باعتبارها (موقفاً) شخصياً منه لأننى تقدمت بها فى الأسبوع الأول من توليه المنصب لمعرفتى بتاريخه الدموى لهذا حرمنى من كل مستحقاتى المالية والأدبية، لأننى (مستقيل) فليس لى معاش تقاعدى ولا يحق لى دخول أندية الشرطة ولا مستشفياتها، بل على العكس أحتمل تبعات (تهمة) أننى كنت ذات يوم ضابط شرطة التى يتبجح من كانوا (عملاء ومرشدين) بما كانوا يمارسونه، تماما كما تتصرف الساقطة حين تتهم نساء الحى بأنهن مثلها (ساقطات)، وبالطبع تدركون الفرق الشاسع بين الضابط والعميل.

ما علينا، واصلت دراساتى العليا والتحقت بالأهرام، وهناك صدمت حين عرفت وشاهدت ما لم أكن أتوقعه، فقد كنت أحسب أن الأمن أسوأ مهنة فى مصر حينئذ، لكن اتضح لى أن الصحافة ـ خاصة الحكومية ـ أسوأ بكثير وهذه مسألة شرحها يطول، ربما لو امتد بى الأجل أن أكتب شهادة عليها يوماً ما.

رأيت أسماء كتّاب وباحثين يفترض أنهم مرموقون، لكنهم تقوست ظهورهم من فرط الانحناء أمام جمال مبارك وصفوت الشريف وحبيب العادلى وبقية بطانة السوء، ويقبلون أياديهم وربما أحذيتهم، بينما كانوا يعاملون كل صحفى مثلى لا ينتمى للحزب الوطنى (سيئ الذكر) ويستبعدونه، لدرجة أننى منذ عام 2001 حتى اليوم أحصل على إجازات بدون راتب كحل وسط يحول دون الاصطدام، والشهود على هذه الوقائع أحياء يرزقون.

تشبهنى حكاياتى كثيراً.. كأن نفسى وضميرى عدوان اعتادا التعايش معًا، وكم رددت بيت المتنبى: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوا له ما من صداقته بُدّ، فها أنا فى خريف العمر أحمل الراية البيضاء معترفاً بكافة الهزائم السابقة واللاحقة، أنظر فى المرآة أحيانًا فأرى نفسى محاربًا بلا معركة.. فى حرب عبثية يختلط فيها الصديق بالعدو، أو فارسًا خذله حصانه وسيفه ورفاقه، وأثخنته الجراح، فلم يعد أمامه من خيارات سوى الموت أو رفع الراية البيضاء.

البعض يموت واقفاً، والبعض يموت مستلقياً، منهم من اعتبر شهيداً، وثمة من راح قتيلاً.. كثيرون ماتوا دون أن يدروا، والأكثر لا يزالون على قيد الحياة، أموات بقلوب تنبض، أما أنا كيف سأموت؟ هذا ما لا أعرفه بعد، فلست واثقا من أى شىء، أشعر أننى فى محطة ما انتظر السيارة، القطار، الطائرة، انتظر الجنازة لالتحق بأول نعش أنتظر كل الحكايات التى تشبهنى حتى أعيشها دفعة واحدة، ألم أقل لكم تشبهنى كل الحكايات العابرة المبتسرة الحزينة.

أخاطب الأصدقاء والأعداء والأعدقاء، أرجوكم سعة الصدر، فليس من نبل الخصومة التنكيل بالأسرى أو جثثهم، فكل ما أنشده أن أشكو لكم هماً شخصياً، فلا يمكن أن نتكاشف حقًا من دون شكايات حميمة، والذى اختار الكتابة أو اختارته لا شىء فى حياته اسمه (شأن شخصى)، فهو مستباح فى كل خطوة يخطوها، وفى كل نفس يخرج من رئتيه، وعليه أن يتدرب على تلقى الطعنات والإهانات والافتراءات بصدر رحب، كأنه قدر لا مفر منه.

بكل صدق سادتى وصلت الآن لنتائج مفزعة لى شخصياً، وليس لأحد آخر بالطبع، فبعد سلسلة انكسارات قاسية تعاقبت على كل الأصعدة العامة منها والشخصية تقلصت الأحلام الممكنة إلى حد أصبح معه المرء يؤمن يقيناً أنه "مشروع هزيمة" ولا شىء أكثر.. فكل من راهنا عليهم خذلونا.. وكل من حاولنا التمسح فيهم تنصلوا منا، وكل ما تصورناه مؤسسات اتضح لنا أنها خرافات، بدءاً من نظام "اليانكى" الدولى، مروراً بأساطير الدول والمجتمعات فى شرقنا المسكون بأنصاف الآلهة، انتهاء بمؤسسة الضمير التى باتت تعرض يومياً للمزايدات تارة باسم السماء وتارات باسم الوطنية وأخرى بأسماء لا حصر لها، ولا ندرى أين سترسو بنا السفينة.

لهذا سادتى فكرت أن أفعل ما كان قد اعتزم شاعر فرنسا ومثقفها الكبير "رامبو" ذات يوم قبل عقود، حين اعتزل الجميع، وقرر أن يصنع جنته الخاصة فى "عدن" أو "الحبشة"، وكلى يقين أننى سأمضى على درب مماثل، مع اختلاف التفاصيل وفقاً لظروف عالم ما بعد 11 سبتمبر وما يسمى الربيع العربى، فقدت عدن زخمها الأسطورى، وصارت إحدى محطات الهوس الدينى، والنعرات القبلية، ولم تعد صالحة لحلم "الفردوس المفقود".. أما أثيوبيا ففيها من الكوارث والأزمات ما يكفى لترشيحها كنموذج "بروفة للجحيم"، لهذا تنازلت عن "حلم رامبو" ببساطة.

من هنا ينبغى أن أفكر بحلم جديد، سأواصل الأحلام حتى ألقى وجه ربى، سأقول له يا إلهى أنت تعلم عنى جميع ما أعرفه ولا أعرفه، بالتأكيد أخطأت كثيرًا، وأصبت أحيانًا، لكن خطايا ثلاثة لم أرتكبها: لم أخن ضميرى يوماً، قد أسيئ الفهم والتقدير لا بأس، لكن لم أتاجر بما اعتقده صوابًا أو خطأً، ولم أخذل أصدقائى أبدًا بل بذلت جهوداً قدر استطاعتى لمساعدتهم دون أى مقابل، ولم أشرك بربى قط، بل دائمًا كنت أوقن أن الإله واحد أحد، وغاية ما أرجوه هو العشم فى رحمته تعالى، وسعة صدر من عرفتهم وعرفونى، وأيضاً من لم يعرفونى بما يكفى أن يسامحونى، وألا يحرموننى من دعوة طيبة بظهر الغيب، والله غالب على أمره.

Nabil@elaph.com









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة