عايزين إجازة من النكد الذى يخيم على البلاد مثل السحابة السوداء، التى تلوث الهواء وتصيب الصدور.. هدنة مؤقتة لأيام أو أسابيع نلتقط فيها الأنفاس ونستنهض روح التفاؤل، فلا شىء يدعو إلى الارتياح أو يُحيى الأمل فى النفوس، وحتى الأخبار السعيدة القليلة تعقبها موجات من النكد والغم والعكننة، وكأننا أصبحنا شعبا لا يعرف كيف يفرح، وإذا فرِح يستيقظ مذعوراً وهو يقول "اللهم اجعله خير، اللهم اجعله خير".
جاء الإحباط لأن الآمال التى كانت طويلة وعريضة بعد 25 يناير، ظلت تخفت وتتلاشى وتتراجع وتنسحب حتى أصبحت سراباً، وبعد هدوء لم يدم طويلاً اختلف الشركاء والثوار وضربوا بعضهم بالحجارة وكسر الرخام، وحطموا المنصات التى كانت تشحن الحماس وتُوقظ الهمم، وانتقلنا من "معركة الجمل" إلى "غزوة التحرير"، وسالت دماء لا تروى الأسفلت ولكنها تعمق الصراع والاختلاف، وتفتح الأبواب من جديد للتوتر والفوضى وعدم الاستقرار.
كان الأمل يحدو الجميع فى عودة الهدوء واسترجاع الأمن، ولكن عادت الأوضاع إلى نقطة الصفر، وسقطت على المصريين الجالسين فى بيوتهم يوم الجمعة الماضية سحابة همّ سوداء، فبعد قرابة عامين مازلنا نضرب بعضنا بالحجارة ويسقط الجرحى وتسيل الدماء، وكان يمكن أن يسقط قتلى بجانب الجرحى لولا عناية الله، وكنا على أعتاب عودة الخرطوش وقناص العيون وكتائب اللهو الخفى والطرف الثالث وماسبيرو ومجلس الوزراء ومحمد محمود.
سقط الإحباط فوق رؤوسنا كالأمطار المتسخة، لأن ميدان التحرير عاد معطلا للحياة وليس رمزاً للأمل، وساحة للضرب والدماء وليس الحرية والديمقراطية، ومتى - إذن - يعود الناس إلى العمل والإنتاج وتنتظم الحياة، حتى نشعر ببوادر التحسن وجنى الثمار واستعادة الأمن؟.. وهل يبقى الوضع على ما هو عليه من فوضى عارمة وتظاهر عشوائى، بينما الشرطة تُؤثر السلامة وتنسحب من الميدان وتترك لشريعة الغاب أن تُعمل قوانينها، حتى لا تُتهم بأنها تقتل الثوار ويُساق ضباطها إلى محاكم التشهير الإعلامية والقصاص الشعبية؟
فى 25 يناير رفع الشعب شعار إسقاط النظام، ولكن فى أحداث الجمعة الماضية 12 أكتوبر انقسم الذين أسقطوا النظام على أنفسهم، وأراد كل فريق أن يسقط الآخر، فى حرب شوارع شعبية تحدث لأول مرة وهنا مكمن الخطورة، لأن الصراع هذه المرة مختلف وطرفاه جماعة الإخوان المسلمين التى تستحوذ على كل مفصلات الدولة، ويظاهرها حزب وأنصار وأتباع ومريدين، يتم استدعاؤهم وتوجيههم لتنفيذ الأوامر والتعليمات، ولن يكونوا أبداً مثل أعضاء الحزب الوطنى الذين ابتلعتهم الأرض.
أما الطرف الثانى فى المواجهه فهو التنظيمات الشبابية والشعبية واليسارية والناصرية والتيارات الأخرى المشابهة، وهم أيضا يحترفون الحشد والمواجهه ومعارك الطوب وكسر الرخام.. وإذا تجدد الصراع بينهم وبين الإخوان المسلمين مرة أخرى، فلا يعلم أحد غير الله ما يمكن أن تسفر عنه مثل هذه المواجهات، خصوصاً أن أطراف كثيرة تدق الأسافين وتسعى إلى الخراب، وتعمد إلى التهييج والتحريض وإشعال الفتن، والتعجيل بحدوث جنازة حتى يشبعوا فيها لطماً.
أخبار النكد ليست عفوية ولا عشوائية، ولكنها فن وصناعة وتجارة، والشعوب المكتئبة تكون دائماً ضعيفة المناعة مثل المريض المكتئب، ولا تستطيع مقاومة العلل والأمراض بسبب ضعف مناعتها وانهيار خطوط دفاعها الداخلية، فتستسلم شعوبها ليلاً لوحش الإعلام الكاسر المتمثل فى الفضائيات، وتستيقظ صباحًا على حفيف المواقع الإلكترونية، وبعضها يسعى إلى جذب الزبائن والمشاهدين واقتطاع جزء من كعكة الإعلانات، حتى لو كان ذلك فوق جثة الحقيقة، أو بأسلوب راقصة السيرك البلدى ولمبة النيون "على صدرها تنور.. على وسطها تنور.. على فخدها تنور".
أخبار النكد أصبحت أحيانا مثل فنجان القهوة السادة التى تُقدم فى الجنازات، وكأن المتوفى لن تُستخرج له شهادة وفاة إلا إذا وزعوا على روحه قهوة سادة، وهى بالفعل تُزهق الفرحة والأمل، وتبعث على اليأس والقنوط، تطاردنا فى البيت والشارع والعمل وفى التليفزيون وعلى المقاهى وفى ميدان التحرير، وأثناء النوم واليقظة.. ولا ينقذنا من أنيابها سوى أفلام أبيض وأسود وإسماعيل ياسين ونجيب الريحانى وفؤاد المهندس، و"الفلة فى المنفلة" و"الأكس فى التكس".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة