سأتحدث فى هذه المساحة عن نفسى، متخيلا سقوطى شهيدا فى إحدى معارك الثورة، وسمعت أن قتلتى حصلوا على البراءة واحدا بعد الآخر، مثلما حصل من قبل قادة وزارة الداخلية، ومن بعدهم قادة الحزب الوطنى الذى اشتركوا فى موقعة الجمل، فماذا سيكون رد فعلى إن سمعت الخبر؟
أكررها، عن نفسى أتحدث، وما ألزم به نفسى لا ألزم به غيرى، فبالنسبة لى لم أكن لأعتبر القصاص من القتلة إلا مؤشرا لجدية الثورة، وجدية القائمين عليها، فلم أستشهد ليقتل بضعة أشخاص «وخلاص»، ولم أنزل من بيتى معرضا نفسى للموت مرة بعد مرة لأنعم بوضع حفنة من العجائز داخل السجون، ولم أهتف «سلمية» رغبة فى الانتقام، فقد كان المستقبل هو ما أبتغيه، الأمل هو المرجو، الحرية هى التى أنشد، العدل هو المراد، وعلى هذا لا يعنينى الانتقام من قتلتى إلا بقدر ما يحقق ذلك العدل الذى افتقدناه، وحاربنا من أجل تطبيقه، ولأننى أحب أن أكون متسامحا، كان من الممكن أن أتنازل عن حقى فى القصاص، إن كان هذا سيساهم فى استقرار البلد، ومن ثم فى ترسيخ قواعد الدولة العادلة، وإن كنت أشك فى حدوث أحدهما دون الآخر.
لو كنت شهيدا، لم أكن لأحزن كثيرا إذا ما سمعت عن أن مبارك حصل على البراءة، أو أن زبانيته خرجوا من السجون، فليس لى ثأر شخصى مع هؤلاء، فغريزة الحياة والخير والحرية هى ما أخرجتنى من بيتى، وليس غريزة الانتقام، العمل من أجل المستقبل هو المراد، وليس تصفية حسابات الأمس، وعلى هذا فإننى أعتقد أننى سأكون سعيدا لو مت فى سبيل وطنى، ثم أصبح هذا الوطن حرا متقدما سعيدا فى غضون أشهر أو سنوات، ولم أكن لأنظر إلى قتلتى سوى بعين الشفقة، فهم فى النهاية قتلة، ومصيرهم هو الذل فى الدنيا والآخرة، أما أنا فشهيد، ومصيرى هو النعيم فى الدنيا والآخرة، وخير لى أن يحصل مجرم على براءة لا يستحقها، بدلا من أن يحصل برىء على عقوبة لا يستحقها، هذا هو العدل الذى أنشده، وتلك قواعده.
ما سبق هو وجهة نظرى لو كنت شهيدا، أما وأن الله لم يرد أن ينعم علىّ بالشهادة، ولأننى لا أعرف ما هو رأى شهدائنا فيما جرى، فإننى قد تبنيت مثلما تبنى غيرى من شباب مصر مطلب محاكمة القتلة، ودافعت عنه فى كل مقالاتى الصحفية ومشاركاتى الوطنية، واعتبرت أن محاكمة القتلة «بالعدل» هى الأساس السليم لبناء الدولة الجديدة «العادلة»، ولهذا تلقيت الصدمة بعد الصدمة من مهرجان البراءة للجميع الذى نعيش أحلك فصوله منذ أيام الثورة الأولى، وتضاعفت صدمتى لأننى رأيت العدل يُداس كل يوم فى محاكمنا وشوارعنا وحكوماتنا، ورأيت أن ما يشغل بال ساستنا وحكامنا ونخبنا هو حب الظهور والتحكم والتملك، لا حب البناء والتثقيف والتنمية، ورأيت أن حكومتنا المنتخبة ورئيسنا المنتخب وقادتنا الذين ارتضيناهم يسيرون على نهج مبارك، يحكمون بقوانينه، ويستعينون برجاله، ويتحدثون باسمه، ويكرمون قادته، فلا بالعدل حكمنا، ولا بالمستقبل ظفرنا، ولم تعد تجدى فضيلة التسامح، كما لم تعد تفيد غريزة الانتقام، وأقسى من براءة المتهمين فى موقعة الجمل بالنسبة لى، رؤية معاق يهان من أجل أبسط حقوقه، أو سيدة تموت وهى تزاحم من أجل الفوز بـ«شنطة رمضان»، أو عامل يحرق نفسه من أجل التجنى على راتبه، أو مدينة أثرية عظيمة كمدينة «أون» تدمر بالتواطؤ والخيانة والتبلد، وليس أقسى من قرار قاضى محكمة «موقعة الجمل» سوى قرار السيد هشام قنديل بإلغاء الدعم عن المياه والكهرباء والوقود، فإن متّ شهيداً فى معركة قادمة فلا تحرصوا على محاكمة قتلتى بقدر حرصكم على ألا يهان مصرى، فهذا هو نعيمى.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة