آثرت أن أكون آخر من يكتب عنه فهو لا يحب الرثاء، بل يعشق الحياة التى احترف قيادتها على مزاجه هو لا كما يحب أن يراها الناس، بل إن آراءه الصادمة باقتدار تحمل كل المصداقية عندما يمتدح أحدا، وهو أمر نادر فهو دائم انتقاد نفسه ولا يرى فى شخصه اختلافا، حتى إنه ينكر على نفسه عبقرية يشهد بها أصدقاءه ويتعلم منها تلامذته ويخشاها أعداء الحرية ويقرها الواقع.. يتجنب الشهرة، بل ويذهب إلى ازدرائها إلى حد الهروب منها، صامت لا يتحدث إلا إذا طلب منه إبداء الرأى أو ارتأى فى حديث ما يخالف مبادئه فيرد الكلمة بالحجة، حتى تجد كل من حوله صامتين تاركين المحاججة وناهلين من عمق نظرته ورسوخ فكره.. من يرى وجهه لا يستطيع تبين الابتسامة من التجهم أو حتى اللاانفعال، فهو وجه لا تملك سوى أن تطيل النظر إليه طويلا، ولكنك أبدا لن تسبر أغوار عينيه الشديدتى العمق وكأنهما مدخل إلى بئر أسراره وأفكاره الكثيرة الشديدة الترابط والتى لم تخيب أبدا نظرتها التحليلية ولو بقدر ضئيل منذ بدأ فى روز اليوسف عام 1954، وحتى أخرج لنا مصر على حافة المجهول فى 2010 وعشرات المناقشات خلال 2011 وكأنها 57 عاما من قراءة مستقبل مصر والوطن العربى بأكمله، وعندما يسأل عن سر المعرفة يجيب بعاميته المصرية الخالصة وبلدغة رائه المحببة من خلال صوته العميق "فكر بالراحة"، وكان هذا من باب المسئولية تجاه كل من قد يقرأ له سطرا أو يستمع لكلمة منه فى نقاش حتى إنه بعد تجربته الثرية فى صفوف المقاومة الفلسطينية والتى توَّجها بتأسيس مدرسة الكادر- ليتخرج فيها مهندسو السياسة الفلسطينية فيما بعد- كان قد كتب مؤلفا هاما عن الحركات اليهودية الإسرائيلية المناهضة لقيام دولة إسرائيل والفكر الصهيونى، إلا أنه قرر عدم نشره فى هذه المرحلة - بداية السبعينيات من القرن الماضى – ولما سألته عن السبب كانت إجابته "وجدت أن هذه الحركات ليست ذات أهمية حقيقية، بل إنها فى أغلبها ضعيفة عدديا وفى حجم تأثيرها وعليه خفت أن يعتقد القارئ العربى فى قوتها ويبدأ فى التعامل مع القضية الفلسطينية من هذا المنطلق.. فنحن (العرب) يا أستاذ نقرأ وكأن من كتب لا يخطئ ولا يرد عليه.. عليك أن تتعلم قيمة التوقيت فمن الوارد أن ينشر فى وقت لاحق حتى ولو بعد سنوات، ولكن فى الوقت السليم وليس المناسب فالفارق كبير".
لم يتشدق أبدا بأنه عاشق لعمله أو أنه عاشق صبابة لتراب الوطن، فهو يرى أن كتابته ومشوار عمره هما الشاهدان الحقيقيان على ما يجول بخاطره، فهو يكره كثرة الكلام حتى يصف لغط المتحدثين ببرج بابل ولا يهاب الموت، حتى إنه قال قبيل سفره فى رحلة علاجه الأخيرة "لو اتشليت هموت.. لا أطيق أن يحملنى الناس أو أكون فى يوم مصدر إزعاج وهم" هو مصر على الاختيار وقد فعل..
أكتب عنه بأفعال مضارعة لأنه حى ولازال لديه الكثير هو الفارس النبيل مصطفى الحسينى الذى أمر الموت بحمله، فحملت أنا على ظهرى أحزانى.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة