- 1 -
فاجأنى صديقى الشاعر والكاتب الكبير بالأهرام "إبراهيم داوود" ذات ليلة قائلا: "إبراهيم أصلان يسأل عنك ويريد أن يراك" قلت لصديقى الشاعر على الفور: "سوف أذهب له فى الكيت كات"، وبالفعل خطر فى ذهنى أن ألتقى به فى مقهى "عوض الله" فى الكيت كات الذى كنا نقابل فيه "أصلان"، ابتسم " إبراهيم داوود" وبدت لمعة فى عينيه لا تظهر إلا فى لحظات نشوة خاطفة وقال: "إبراهيم ساب الكيت كات وهو حاليا فى المقطم"، وفى هذه اللحظة أحسست بحالة من اليأس لأننى لن أستطيع الذهاب له فى "المقطم" فأنا قد قاطعت كل أحياء القاهرة التى كانت تبعد كثيرا – أو قليلا – عن مقهى زهرة البستان بعد أن تحولت إلى آخر الأماكن التى أستطيع الوصول إليها، (بعد أن كانت "زهرة البستان" لصاحبها الحاج "عبده" وابنه "حمادة هى العمق الاستراتيجى لمقهى "ريش" لصاحبه "عبد الملاك" وولده "ميشيل" الذى طرد كل الكتاب الفقراء من "ريش" فلم يجدوا مقرا إلا مقهى "زهرة البستان")، وربما يكون "إبراهيم داوود" قد لمح بعضا من الأسى فى ملامحى، فأسرع يطمئننى: "سوف يأتى إبراهيم أصلان الليلة ليسهر معنا أنا ومجدى أحمد على ومحمد الرفاعى"، ولما كنت أنا أعرف المكان الذى يسهر فيه أصدقائى، فقد ذهبت إليه قبل منتصف الليل بساعة تقريبا، وكان "إبراهيم أصلان" جالسا فى المنتصف بين "إبراهيم داوود" وصديقى المخرج السينمائى "مجدى أحمد على" فى صمت يستمع للجالسين، وكان الحديث عن "اللهو الخفى" الذى اخترعه المجلس العسكرى المصرى والذى كان يفقع عيون شباب الثورة، كانت هناك سيدة جميلة يبدو عليها أنها ممثلة سينمائية وكانت توجه سؤالها للصديق الكاتب "محمد رفاعى" فى دهشة حقيقية: "كيف ينشنون على العين بكل هذه الدقة؟" واقتربت من "إبراهيم أصلان" قليلا فتعرف على فى الإضاءة الخافتة جدا التى تلف المكان وأطلق ضحكته الساحرة فوجدت نفسى أقبل رأسه وأنا أضغط على كتفيه بكوعى حتى أمنعه من الوقوف لاستقبالى، فأمسك "إبراهيم أصلان" بوجهى بين كفيه وقرب أذنى من فمه وقال هامسا: "لن نستطيع الكلام حاليا، أنا منتظرك فى مكتب جاردن سيتى".
عرفت بعد ذلك أن "مكتب جاردن سيتى" هو مكتب لصحيفة الحياة اللندنية حيث يعمل "إبراهيم أصلان" هو رئيس القسم الثقافى بالصحيفة، قابلنى بترحاب ومحبة افتقدتها عدة سنوات، جلست على أقرب مقعد وجلس فى مواجهتى واضعا كفيه بين ركبتيه وفاجأنى بضحكات قوية لم أعرف سببا لها، بعد ثوان عاد إلى هدوئه ليسألنى: "هو إحنا كنا سنة كام؟" لم أجب بالطبع لأنى لم أفهم السؤال، لكنه مسح بيده فوق شاربه الكث فبانت عروق يميل لونها للاخضرار من تحت جلد يديه الذى رأيته متغضنا لأول مرة فى حياتى وقال: "تذكرت يوم ذهبنا إلى مجلة الكاتب ولقاءك مع عبد العزيز صادق" فوجدت نفسى أضحك مستمتعا بالذكرى وبلقائى لصديقى بعد كل هذه السنين.
- 2 -
كنا سنة 1974 وكنت لم أعرف "إبراهيم أصلان" معرفة شخصية لكنى كنت قد قرأت له ثلاث قصص قصيرة ربما كانت منشورة ولكنى قرأتها بخط يده عند صديقى الراحل الكاتب "ضياء الشرقاوى" الذى كنت أذهب له فى مكتب إدارى لشركة الأسمنت التى كان يعمل بها وكان هذا المكتب فى عمارة الإيموبيليا فى وسط البلد وأبديت انبهارا بقصص "إبراهيم أصلان" أكثر من انبهارى بما يكتبه ضياء الشرقاوى، وكنت أكاد أحفظ قصة "العازف" عن ظهر قلب، أما قصة "الرغبة فى البكاء" فقد أبكتنى رغما عنى لدرجة أن ضياء الشرقاوى عندما قدمنى لإبراهيم أصلان قال له لقد ضبط هذا الولد يبكى وهو يقرأ قصتك الرغبة فى البكاء" فضحك إبراهيم ومسح شاربه بكف يده وسألنى عما أكتب، وقبل أن أرد عليه أجابه ضياء الشرقاوى بأننى أحمل دائما فى جيوبى ثلاث قصص قصيرة وأمرنى ضياء بأن أخرجها من جيبى لأعرضها على إبراهيم، ففعلت، وقرأ إبراهيم القصص الثلاث ودعانى على شرب فنجان من القهوة على حسابه، وما أن انتهى من قراءتها حتى انتفض واقفا وتركنا وابتعد عنا إلى منضدة كان يجلس عليها الشاعر الفذ (الشاب يومها) أمل دنقل مع الكاتب يحى الطاهر عبد الله وإبراهيم منصور، شاور لى إبراهيم أصلان بأن أذهب إليه، ففعلت، وقدمنى إلى "إبراهيم منصور" الذى كنت أخاف حتى من مجرد الاقتراب منه، فقد كان هو صاحب فكرة مجلة "جاليرى 68" والمشرف الحقيقى على اختيار ما نشر فيها، وقال "إبراهيم أصلان" بهدوء: "قصصك مع عمك إبراهيم منصور أهه وهو اللى ها يحكم عليك، بالنسبة لى فأنا أرى أنك كاتب كويس لكن عمك إبراهيم منصور هو الذى سوف يحكم عليك" ومنذ هذا اليوم التالى لم أفارق "إبراهيم منصور" يوما واحدا حتى خروجى من مصر إلى بغداد سنة 1977 بعد الانتفاضة الشعبية التى اسماها الرئيس القتيل "السادات" انتفاضة الحرامية، فى اليوم التالى صحبنى "إبراهيم أصلان" إلى مبنى دار المعارف على كورنيش النيل وقدمنى إلى مدير تحرير مجلة الكاتب المصرى التى كان الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور رئيس تحريرها وقدم له "أصلان" الثلاث قصص التى كتبتها فأمسك "عبد العزيز صادق" بالقصص الثلاث ووضعها إلى جانب سطح مكتبه وهو يقول: "سوف نقرأها وإن كانت صالحة للنشر فسوف ننشرها" وجدت نفسى أمد يدى وآخذ قصصى وأخرج من المكان وقد تملكنى غضب شديد، وعندما لحق بى "أصلان" على باب المبنى كان يضحك بقوة وهو يسألنى: "عملت كده ليه يا بن الـ.." فقلت له فى تواضع شديد: "من قال عنه إبراهيم أصلان كاتب كويس، ومن قال إبراهيم منصور على ما كتبه قصص نادرة لن ينتظر حكما على قصصه من عبد العزيز صادق".
كنت أجلس فى مواجهة "أصلان" فى مكتب "جاردن سيتى" وهو يبتسم لذكرى هذه الواقعة وبدأ يحكى لى أنه لم يحصل على أية شهادة علمية إلا شهادة "الابتدائية القديمة وأنه فى بداية حياته عندما كان يعمل بوسطجى فى السنترال أرسل قصة قصيرة كتبها سنة 1965 إلى مجلة ثقافية لنشرها وأرسل لهذه المجلة مع قصته مظروفا فارغا وألصق عليه طابع بريد وكتب عنوانه على المظروف الفارغ وكتب ملاحظة لمسئول المجلة الثقافية التى كان يرأس تحريرها "يحى حقى" بأن لا يردوا عليه فى بريد القراء بل عليهم أن يكتبوا ردهم برأيهم فى قصته فى رسالة يضعوها فى المظروف الفارغ المرفق مع القصة.
كان معتدا بنفسه، معتدا بكل حرف كتبه، كان يكتب ما يعيشه، ويعيش ما يكتبه، لم يكتب جملة واحدة على سبيل الاستعارة من أى كتاب قرأه، ولم يكتب عن شخص واحد لم يلتقيه فى حياته كما يفعل كل كتاب القصة والرواية، كان لكل ما يكتبه رائحة الدم والعرق وتراب الأرض، لم يستعر حادثة من أحد بالسمع كما كان يفعل كل أبناء جيله وحتى كل الذين أتوا بعده وهم يكتبون رواياتهم عما سمعوه وليس عما عاشوه، كان هو الوحيد الذى يكتب بلغة عربية فصحى بها طعم العامية، وكان يكتب بالعامية التى لها طعم الفصحى، كان يكتب عن بشر من لحم ودم عاش معهم، ضحك منهم، سخر منهم، ليس بطريقة الساخر الفج الذى يسخر من الآخرين بل فى عشق ونبل وتعاطف مع الضعف البشرى، كان يفطن للجزء الساخر فى الشخص والحدث مهما كان هذا الحدث شديد التراجيدية، نعم كان إبراهيم أصلان" يكتب عن بشر من لحم ودم وليس عن مجموعة أفكار مجردة يعطونها اسما بشريا وبأسلوب الكناية يلبسونها شخصية روائية ويجمعون لها حدثا من هنا وحدثا من هناك بالسمع عن هذه الأحداث دون معايشة حقيقية، "أصلان" لم يكن كاتبا عما يسمع، بل عما يعيش، كان يكتب نفسه وروحه مع كل جملة يكتبها، وكان فى هذه الأثناء (سنة 1974) متحمسا لمقولة الراحل "محمد حافظ رجب" عن جيل الستينات: "نحن جيل بلا أساتذة".
كانت مقولة: "نحن جيل بلا أساتذة" قد أطلقها الكاتب الراحل - الشاب حينها – محمد حافظ رجب بالرغم مما فيها من ادعاء بقدر ما كان فيها من حقيقة، كما أنها لم تكن مقولة عشوائية لكنها كانت النصب التذكارى تتجسد فيه كل الهموم الإبداعية والحياتية للتعبير عن مرحلة تاريخية من عمر الوطن التى تم فيها هزيمة الجيش المصرى هزيمة أفقدت الجميع كبرياءهم وكرامتهم وإيذانا ببزوغ روح التحدى عند شباب الكتاب من هذا الجيل "الستينات" الذين أخذ ينفض عن كاهله عار هزيمة العسكر المتخاذلين ويكنس كل ميراث الكتابة الذى داهن العسكر والطغاة دائما، معلنا بداية البحث عن هوية الوطن وعن هوية خاصة به فى الكتابة، لاسيما وأن أكثرهم موهبة كانوا قد تسربوا من مدارس التعليم الفاسد ورفضوا إكمال دراستهم عن قصد فمثلا ترك أمل دنقل كلية الآداب واكتفى كل من يحى الطاهر عبد الله وعبد الرحمن الأبنودى بالمرحلة الثانوية، أما "محمد حافظ رجب" صاحب الشعار الصب التذكارى لهذا الجيل العبقرى فقد أنهى حياته وحيدا ومنزويا فى بيته فى حى كرموز بالإسكندرية يتحسر على الأيام التى كان يبيع فيها اللب والفول السودانى فى محمصة بجوار دار سينما "ستراند" فى محطة الرمل بالإسكندرية، وأذكر أن "محمد حافظ رجب" قال لى ذات مرة (كنا فى عربة الدرجة الثالثة فى القطار الذى كان عائدا بنا إلى مدينتنا الإسكندرية) أنه لم يحب كتابة أحد من كل جيله أو حتى من كل كتاب القصة غير "إبراهيم أصلان" و"عبد الحكيم قاسم" "ويوسف إدريس" وعندما قابلت يوسف إدريس بعد ذلك قال لى أنه لم يحب قصص "محمد حافظ رجب" بالرغم مما بها من طزاجة وحلاوة لكنه يعشق كل قصص "إبراهيم أصلان".
- 3 -
فى اليوم التالى لليوم الذى أخذ فيه "إبراهيم منصور" الثلاث قصص التى كتبتها وكان "إبراهيم أصلان" قد أعطاها له فوجئت بها وقد انتقلت لـ "يوسف إدريس" الذى كان يجلس فى أحد أركان مقهى ريش مع سيدة بيضاء الوجه المستدير وعينين زرقاوين يتناولان الطعام والهمسات وهو يشير لى بأن اقترب منه، فذهبت إليه وألقيت التحية على السيدة الجميلة فقال لى "يوسف إدريس" بأن أنتظره حتى ينهى طعامه لأنه سوف يأخذنى إلى مكان ما، بعد ساعة (أو ربما ساعتين) وجدت نفسى إلى جوار الدكتور يوسف فى سيارته المرسيدس الزرقاء، ثم فى نفس مقر مجلة الكاتب المصرى الذى كان "إبراهيم أصلان" قد أخذنى إليه قبل ذلك لمقابلة "عبد العزيز صادق" مدير تحرير المجلة، لكن هذه المرة كنت مع الدكتور فى مكتب رئيس التحرير وكان أمير الشعراء "صلاح عبد الصبور" حيث قدمنى له الدكتور وأعطاه القصص الثلاث.
بعد أسبوع وجدت قصتى "الليلة التى سبقت عوّة" منشورة فى مجلة الكاتب المصرى، حملت العدد الذى نشرت فيه قصتى واقتحمت جلسة الدكتور مع بعض الأصدقاء وصافحته وشكرته، وبعد أن أنهى جلسته طلب منى أن أصحبه إلى سيارته، وبعد أن حملتنا السيارة المرسيدس الزرقاء وجدت نفسى أجلس فى مواجهة الدكتور يوسف على مائدة فى زقاق ضيق فى مواجهة مسجد السيدة زينب وأمامنا كمية هائلة من الكباب والكفتة، فيما أخذ الدكتور يتحدث فى نشوة وتلذذ بطعم الكفتة:
- " كان العرب يحتفلون بذبح الخرفان وإقامة الولائم عند ظهور شاعر جديد فى القبيلة، وأنا أحتفل بكاتب جديد بكيلو ونصف فقط من لحم الخروف، كل يا ولد، هذا أحلى كباب وكفته فى مصر كلها".
ولم أستطع أن أفتح فمى بكلمة واحدة فيما أخذ الدكتور يوسف يسترسل فى حديثه معى عن أن مستقبل مصر الأدبى سوف يكون من صنع كتاب القصة القصيرة وبالذات التى يكتبها هو، فهى الفن الوحيد القادر على التقاط الجوهر الحقيقى للإنسان، وقال إنه يعنى بذلك بالقصة القصيرة التى يكتبها "إبراهيم أصلان" فهو كاتب قصة قصيرة حقيقى، وتحدث "يوسف إدريس" كثيرا عن "إبراهيم أصلان" فقال بأن القصة القصيرة عند أصلان هكذا (وطرقع بإصبعيه طرقعة خفيفة ورشيقة توحى بمعنى الومضة) ثم كررها عدة مرات:
-"القصة القصيرة عند إبراهيم أصلان كدا (طرقع بإصبعيه)، كدا (طرقع بإصبعيه)، لحظة، لكنها لحظة بعمر الخلود".
وكما كتب "إبراهيم أصلان" القصة والرواية عاش حياته (سبع وسبعين سنة) لحظة من الدهر، لكنها لحظة بعمر الخلود.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة