فاجأنى صوتها عبر التليفون، ولم أكن قد سمعته أبدًا قبل هذه اللحظة، «الحقنى أستاذ مجدى.. إبراهيم مابيردش علىّ»، دارت رأسى وكاد المحمول يسقط من يدى وأنا أسمع الصراخ والاستغاثة اليائسة: «الحقونى يا ناس».
البنت تسألنى: «فيه إيه يا بابا؟» وقد امتقع وجهها لما رأت انهيارى المفاجئ، أغلقت المحمول لأمنع وصول الأصوات الآتية من شقة صديقى الجديدة، والذى لم يكد يتعرف إلى نفسه فيها بعد، تماسكت قليلاً ثم طلبت هشام فى «الشروق» فأتانى صوته مرحبًا.. شق علىّ أمر إطلاعه على الخبر: «يا هشام أبوك باين تعبان شوية روح له على طول».. لم أزد وأغلقت التليفون ووجهت نظرى نحو التليفزيون حيث كنت أتابع أحد الأفلام قبل أن تطلب منى الابنة أن نتصل بإبراهيم ربما يخبرنا بنتيجة مسابقة ساويرس حيث اشترك خطيبها فى التسابق على جائزة المجموعة القصصية: «قوم يا بابا روح له»، «حاضر» ولم أتحرك، وقد عاودت يداى الرعشة القديمة.
عندما وصلت بالسيارة أمام الشقة الواقعة فى الدور الأرضى والتى لم أزر إبراهيم فيها أبدًا وجدت هشام يتحدث فى المحمول فقال لمحدثه: دقيقة واحدة. ثم نظر نحوى وقال: البقاء لله.. نظرت نحو الشقة لأجد سعيد الكفراوى واقفًا فى الشرفة يتحدث فى التليفون «علمت بعد ذلك أنه كان يطلع وزير الثقافة على الخبر».. دخلت إلى قاعة الاستقبال الواسعة ذات الأثاث القليل، سلمت على أم شادى التى كانت تستند إلى عصا قصيرة وأمامها جهاز تليفزيون مفتوح على محطة قرآنية وفكرت أن هذا أفضل من الكاسيت الذى كنت أسمعه فى قريتى فى مثل هذه المواقف، وكان فى بعض الأحيان ينتهى القرآن وتنطلق أصوات أغانى خليعة كانت مسجلة أصلاً على الشريط، يهرع الأولاد لوقف جهاز التسجيل وهم يسبون أطفالهم الذين فعلوا هذا.. يحكى لى سعيد الكفراوى بعد أن امتنعت عن دخول الغرفة لمشاهدة إبراهيم وتقبيله: «مقدرش يا سعيد» أرجوك.. نظر نحوى وقال إنه وجده ممددًا على الكنبة وأنه هو الذى حمله إلى سريره وغير له ملابسه، ردت أم شادى بأن إبراهيم كان على الكرسى الهزاز الجميل الذى يواجه التليفزيون ولم يكن على الكنبة، سكت سعيد ثم أعاد قصته عن الكنبة أمام شعبان يوسف الذى حضر مع ابنه.. ردت سيدة مع أم شادى بلهجة حاسمة أن إبراهيم كان جالسًا على الكرسى ولم يرقد أبدًا على الكنبة.. زادت أم شادى: أنا صليت العصر وسألته: «أعمل لك شاى يا إبراهيم؟» ماردش علىّ.. قربت لقيت إيده اليمين مفرودة لتحت ورجله ملوية تحت الكرسى بطريقة غريبة.. قلت له: «إيه يا راجل، إنت نمت؟» مردش علىّ، وأنا فكرت أنها ميتة قريبة من ميتة البهى فى «العصافير» فيما عدا السبحة الساقطة على الأرض، وتذكرت كيف كتب إبراهيم كثيرًا عن هذا الكرسى المنجد بقماش ذى نقوش يدوية زاهية.. كتب عن رحلة الكرسى معه من شقة الكيت كات الضيقة وفى محاولات إصلاحه وانتزاع حقه فى التواجد ضمن أنتريه غرفة المعيشة المزدحمة.. كان الكرسى الخالى يبدو منسجمًا تمامًا مع القصة التى أوشكت على النهاية.
سبقت الجميع إلى مدافن باب النصر.. إبراهيم قال لى منذ شهر إنه يريد أن يجد مدفنًا فى القاهرة: «عشان أكون قريب من العيال».. وفكرت هل وافق على اقتراح نسيبه بأن يدفن هناك؟ ثم قلت المهم أنه قريب منّا جميعًا.. كان المدفن غريبًا فى مبنى خشبى كالح مصنوع بذوق إنجليزى رفيع.. بداخله عدة مقابر صغيرة.. وجدت حفرة أعدت لإبراهيم فى مدخل المبنى الخشبى.. أمام المبنى جلس رجل على كرسى بلا ظهر أمامه حلاق يحمل شنطة بها «موس» ذو شفرة قديمة وقد وضع الصابون على ذقن الرجل وبدأ يحلق شعره الكثيف.. أمامه كانت بنت صغيرة حافية تلعب بطوق من بقايا عجلة قديمة.. وفى الجوار كانت عائلة تقرأ القرآن على ميت قديم، كانت المرأة تضحك وهى تأكل البرتقال وتلقى بالقشر بجانب المقبرة الكالحة.. عندما جاء إبراهبم ابتعدت نحو الحائط حتى لا ألمح الجسد وهو يخرج من الصندوق الخشبى المغطى بملاءة لا تكفى لستره.. تبينت بجوارى محمد المخزنجى يقف صامتًا وعندما انطلق الحمام فى السماء خلف المقبرة مباشرة قلت لمحمد: المكان لا يليق بإبراهيم ولكنه يشبهه. أمّن محمد على كلامى وأشار إلى الحمام الذى تزايدت أعداده عندما وسدت المجموعة «وبينهم إبراهيم داوود» جسد صديقى فى الحفرة وعندها ارفتع صوت أخيه الأصغر والذى يشبه إبراهيم كثيرًا: مع السلامة يا إبراهيم.. فتساقطت دموعنا جميعًا.
بعد أن انتهت ليلة العزاء التى جاء إليها كل مثقفى مصر ومحبى إبراهيم.. لم يكن أحد يريد الرحيل.. ثم رأيت إبراهيم نفسه يركب معى السيارة، فقلت له: ليلتك جميلة يا «أبو خليل» يا ريتنا نلاقى نصها.. ورأيت إبراهيم يضحك وهو يمسك بيدى لكى أساعده على الصعود إلى السيارة وهو يقول: لا يا شيخ.. حلوة صحيح؟!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة