أظن أن أكبر تهديد يواجه الثورة المصرية هو إهمالها للفقراء، أو التعامل مع قضية الفقر فى مصر باستخفاف لا يليق، ورعونة مرفوضة. فالثورة اندلعت فى المقام الأول بسبب الشعور بالظلم الذى طال ملايين الفقراء من المصريين (أكثر من أربعين مليونا يكابدون فقراً مدقعاً)، فى مقابل تراكم الثروات المهولة فى جيوب أقلية استحوذت على السلطة والنفوذ، فأخذتها العزة بالإثم وراحت تنهب وتسطو وتخرّب!
صحيح أن الذين أشعلوا الشرارة الأولى فى 25 يناير المنصرم هم الشباب المصرى البطل والجسور، إلا أن الثورة ما كان لها أن تنجح وتؤتى أكلها لولا انضمام ملايين المصريين إليها، (وغالبيتهم فقراء)، بكل طاقاتهم ورغباتهم وطموحاتهم فى إسقاط دولة الظلم والفقر والقهر.
هؤلاء الملايين من الفقراء الطيبين هم الذين منحوا الثورة رونقها الاستثنائى، وحموها من بطش نظام غليظ القلب لم يتورع عن قتل الناس، وذلك عندما جاءوا خلف أبنائهم من كل فج عميق، وأقاموا فى ميدان التحرير وبقية الميادين الكبرى فى ربوع مصر كلها، حتى سقط النظام وأجبر حسنى مبارك على الخروج من قصر الرئاسة غير مأسوف عليه.
الآن.. وبعد مرور أكثر من سبعة أشهر على إسقاط أغبى نظام حكم مصر على مر العصور، ماذا قدمت الثورة للفقراء من العمال والفلاحين وصغار الموظفين، بالإضافة إلى ملايين العاطلين؟ الحق إن الذين سقطت تفاحة السلطة فى أفواههم بعد نجاح الثورة، لم يهتموا بالفقراء وإنصافهم فوراً، بل شغلوا الناس بقضايا حول الانتخابات وقوانينها ودوائرها، والدستور وتعديله والمواد فوق الدستورية إلى آخره.. فى حين كان من الممكن أن نعبر هذه المرحلة الانتقالية بأداء أفضل وبطريقة أسلم، وفى وقت أقصر، لكن ماذا تقول لمن بيدهم الأمر؟
إن فوضى القرارات التى يتوه فى دروبها حكامنا الآن تعود بالدرجة الأولى إلى أنهم ليسوا رجال سياسة، فالمهمة أكبر من إمكاناتهم، والمشكلات متراكمة منذ عقود، وهى فى حاجة إلى خيال خلاًق وإرادة جبارة ونظرة ثاقبة، وكلها أمور يفتقد إليها المجلس العسكرى لأنها خارج نطاق دوره وعمله ومهامه.
آخر نموذج صارخ لهذه الفوضى خاص بقانون الطوارئ المرفوض أصلاً من الجميع باستثناء المجلس والحكومة، وقد فرضوا العمل به فى تحد غريب للملايين الذين ثاروا ضده، حيث نشرت جريدة الأهرام فى صفحتها الأولى يوم الخميس 22/9/2011 عنواناً منسوباً إلى رئيس القضاء العسكرى منطوقه (الطوارئ مستمرة قانوناً حتى 31 مايو المقبل)، فى حين كان العنوان الرئيس لجريدة الأخبار فى اليوم نفسه هو (حالة الطوارئ مستمرة بحكم القانون حتى 30 يونيو)، وقد نسبت الأخبار هذا العنوان إلى مصدر بالجيش! فأيهما نصدق بالله عليك؟
ليس عندى تفسير لهذا الارتباك سوى أن من يحكموننا لا يجيدون خوض عباب بحر السياسة المتلاطم الأمواج، وهذا بالمناسبة لا يقلل من شأنهم، لأن مهمتهم تتمثل فى الذود عن حدود الوطن، لا فى إدارة بلد كبير يضج بمشكلات لا حصر لها.
لقد أضاع حكامنا فرصاً كثيرة منذ سقوط مبارك فى فبراير المنصرم لضبط الأوضاع والسير فى الطريق المستقيم للثورة، وذلك حين عرض الثوار والمفكرون والكتاب والقوى السياسية المختلفة اقتراحات عدة لكيفية إدارة المرحلة الانتقالية بنجاح وفى زمن قصير، لكن ماذا نقول وحكامنا لا يتمتعون بفضيلة الإنصات إلى الآخرين، مفضلين الاستئثار بالسلطة؟ وهكذا حلّ العناد فضاعت الفرص وارتبكت الأوضاع، وتردت أحوال الفقراء أكثر فأكثر.
لا ريب عندى فى أن روائح كريهة للنظام الساقط بدأت تفوح فى سماء القاهرة الآن، وأن الغموض الذى يخيّم على مستقبل الوطن تزداد كثافته من يوم إلى آخر، بسبب ضيق الأفق السياسى والعناد التاريخى الذى يذكرنا بعناد رئيس آخر يقبع خلف القضبان حالياً. لذا أخشى كثيراً من أن استمرار الأوضاع هكذا قد يؤدى إلى انفجار كبير، فالفقراء لن يحتملوا ضنك العيش بعد ذلك، والثوار لن يقبلوا أن يخطف أحد منهم، مهما كان قدره، الثورة التى أشعلوها، وملايين الشعب لن تسكت على الغم والذل والحرمان، بعد أن استعادوا ثقتهم فى أنفسهم أثناء وبعد نجاح الثورة.
ويا حكامنا الأفاضل.. رجاءً.. انصتوا قليلاً إلى صوت العقل السياسى الراجح، وارحموا الفقراء قبل أن ينفجروا!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة