لم أعتبرها «جمعة الغدر» لأن المغدور هو شخص حسن النية بالغادر، يتوقع منه الأفضل التزاما باتفاق ومعاهدة تحترم التاريخ المشترك والقيم الاجتماعية والمقاصد الكبرى لثورة لابد لها أن تغير التاريخ كله، لم يفاجئنى ما حدث وإن فاجأتنى كتيبة «المبرراتية» تتحدث عن عدم الخبرة بالسياسة بعد طول قمع، وكأن السياسة هى فن إخفاء المقاصد والنيات، وكأن هؤلاء تعرضوا لقمع السلطة الباطش بسبب ممارساتهم السياسية، وليس بسبب القتل بدم بارد وعلى المشاع لجنود أبرياء، بل عن أى اختلاف فى الرأى مهما كان طفيفا.. ولا تكفى كل علامات التعجب للتعبير عن حماس هذا التيار المفاجئ «للديمقراطية» بعد أن كانوا «لأيام قليلة مضت» يعتبرونها كفرا صريحا، ودون أى محاولة لمراجعة أدبياتهم الشاخصة بالعداء لكل قيم الديمقراطية وكأن هذا الاندفاع الفظ لالتقاط ثمرة يرونها قد أينعت، ليس مهما أن يكونوا قد شاركوا فى زرع الحقل أو سقايته أو العناية به، المهم الآن أن ثمار الثورة قد أصبحت فى متناول اليد الباطشة «أو هكذا يظنون»، ولم يبق سوى حشد بعض أهل الريف الطيبين سليمى النية، موحدى الزى والهتاف فى ميدان الكفر الذى صنع الثورة، ودفع ثمنها تضحيات ودماء بالتنسيق مع محاولات لاختبار هشاشة الدولة فى العريش وغيرها، وصولا إلى يوم بات عندهم قريبًا لا يضطرون فيه إلى الحديث البغيض على قلوبهم عن «الديمقراطية» بعد أن يسود «شرع الله» الذى اختاروه لنا، والذى لا يرى فى هذا العالم المعقد سوى رأى «شهيدهم» أسامة بن لادن الذى يختصر الحياة فى فسطاطى الحق والباطل، مستمتعا مع رفاقه ومناضليه بقتل كل من قرر إدراجهم فى فسطاط الباطل، خاصة الصليبيين شركاء الأوطان مع استثناء واضح للإسرائيليين الذين لم تصبهم أبدا رصاصات «الشهيد» ومناضليه.
اقتحموا الميدان إذن.. كشفوا الحقيقة دون «سياسة»، فهم لم «يتلوثوا» بعد بقيمها، ولم يتدربوا على «تقية» أتقنها الشيعة، وأخذ عنها الإخوان كل فنونها.. نزلوا إلى الميدان فكانت الحقيقة التى انبلجت أمام عيون الناس واضحة لا مراء فيها.. أرادوا إظهار القوة فلم يظهروا سوى الهشاشة والحمق.
> أعلام للسعودية ترفع تكريسا لمنهج فى الحكم يمثله ابن باز الذى مات منكرا لكروية الأرض! ومعاديا لكل قيم الدولة الحديثة، ولن نتحدث عن التمويل هنا فهذا استباق للوقائع.
ولن نتحدث عن رفع صور القتلة بجانب كتاب الله المنزه.
> شعارات تردد مثل «خيبر خيبر يا يهود.. جيش محمد سوف يعود»، وفى الواقع إن الذى يعود إلى الوراء هو كفاح شعب متحضر، سعى دائما إلى صياغة معركته مع العدو الإسرائيلى باعتبارها صراعا مع الصهيونية، وليست مع الدين اليهودى الذى أمرنا ديننا باحترامه.
> سطو على شعارات الثورة بما يعكس العداء لها، مثل شعارها الأسمى «ارفع راسك فوق أنت مصرى» واستبدالها بـ«أنت مسلم» استمرارا لسياسة المرشد العام التى تتلخص فى كلمتين «طظ فى مصر»، وفرحا بفاشية عابرة لثقافات الشعوب وخصوصية المجتمعات وحب الأوطان وحرية المعتقد.
> سطو حتى على الأغانى الخالدة «اسلمى يامصر» فتصبح دالة على رؤيتهم للإسلام، وكأننا مجموعة من الكفرة والمرتدين، وتنزع عن الأغنية سحرها القديم والخالد «ذى يدى إن مدت الدنيا يدا.. إن رمى الدهر سهامه أتقيها بالفؤاد».
> لا يخلو الأمر من طرائف، فقد سمعت أحدهم يحادث زميله تلفونيا بأنه سوف ينتظره عند «صنم عمر مكرم»، وحملت لافتة تقول «اتقوا الله ولبسونا الحجاب»، ولم أدر ماذا تقصد إذ هى ترتدى الحجاب، لم يمنعها أحد، «بالطبع هى تقصد إجبار الأخريات جميعا على ارتدائه».
> الإهدار الكامل والتام لفكرة عدم استخدام الشعارات الدينية فى معركة سياسية، والتى تنم عن خطتهم المقبلة فى استخدام المساجد والمنتديات الدينية للحصول على المقاعد البرلمانية فى غياب كامل لدولة يقع على عاتقها حماية الناس من استخدام دين الله لأغراض سياسية تتباين وتختلف باختلاف معتنقيها «فكتاب الله لا ينطق وإنما ينطق به الرجال».
> أما الذين هتفوا «الشعب يريد تطبيق شرع الله» فليسمحوا لنا أن نسألهم أى شرع يريدون وأى نمط للحكم يبغون؟ وقد تعددت التجارب التى أدخلت كلام الله المطلق على عالم السياسة المتغير بطبعه: هل هو الشرع على النمط الأفغانى، حيث يعدم الناس بين شوطى مباريات الكرة لتعود المباراة فوق دماء الضحايا، أم على النمط السودانى الذى بدأ بجلد مرتدية البنطلون وانتهى بتقسيم الوطن، أم النمط الصومالى الذى أدى إلى المجاعة، أم النمط السعودى الملكى الوراثى، أم النمط الإيرانى الذى حوّل الدولة إلى مجموعة من الأجهزة القمعية «لتشخيص مصلحة النظام»؟
ما حدث يوم الجمعة كاشف لحقيقة ما تواجهه كل قوى التقدم الراغبة فى رؤية مصر جديدة، حيث قامت الثورة من أجل وضع الناس على مشارف هذا الحلم.. دورنا جميعا أن نمنع تحول هذا الحلم إلى كابوس.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة