ولدت على أرض هذا البلد وعشت عليها لسنوات طويلة، دون أنا أعرف سوى شخص واحد هو الذى يأمر وينهى ويقسو ويعفو.. بإشارة من يديه ينقلب الشىء رأساً على عقب فى غمضة عين، فرجاله المخلصون كانوا يوصلون الليل بالنهار من أجل تحقيق كل ما يريده حتى قبل أن يخطر على باله.
كان رضاه بابا سحريا يتيح لأى شخص تملك كل مفاتيح النفوذ والتأثير والجاه، فاسمه هو عبارة "افتح ياسمسم" التى تزاح أمامها أبواب كل مغارات مصر لتقول للطارق، وهى راضية مرضية، تفضل واغتنم كل ما تريده غير مأسوف عليك، فأنت من القلاقل الذين فازوا بعطف ذى الجناب الرفيع.
لم أكن أحلم كغيرى من أغلب أبناء هذا الوطن سوى بجنيهات قليلة، تكفينى وأسرتى الحد الأدنى من أساسيات المعيشة، وفوق هذا كنت أتمنى شقة صغيرة تأوى أحلامى فى غد أفضل لإنسان طالما ناداه ساكن القصر الكبير "بالمواطن".. للحظات أحسست أننى أتصف بالطمع الشديد، خاصة عندما رجوت مع هذا كله وظيفة تناسب مؤهلى الذى أنفق أبى كل ما لديه من أجل أن أحصل عليه.
"يا بنى هو لا يريد فى مصر أمثالك فامسك عليك أحلامك".. صدمتنى عبارة جدى الكبير الذى انحنى ظهره وشاب شعره، وأبلى المرض جسده، ولكنى رددت عليه بغرور وثقة الشباب هذا سوء النية الذى اعتاد الكبار تغليبه ونحن معشر الشباب لسنا مثلكم.
حاولت ومعى كافة أبناء جيلى أن نسير فوق الأرض، كما شاء الله أن نكون لكن رجال السيد المهاب كانوا دائما لنا بالمرصاد، فالخبز لكى نحصل على أقل القليل منه يجب أن نقف فى طابور طويل تحت أشعة الشمس الحارقة لنفوز بالرغيف أو بالموت السريع والماء، ما علينا سوى أن نشربه بكافة ملوثاته بنفس راضية، وهكذا كنا نفعل مع المنتجات الزراعية المسرطنة والألبان المغشوشة والأدوية منتهية الصلاحية.
كان السيد ورجاله يطلون علينا فى كل لحظة يجمح فيها خالينا المريض ذات اليمين أو اليسار.. ليس لكم سوى هذا القفص، حيث ينهش الجوع والفقر والمرض فى أجسادكم التى تأكل من خيرات هذه الأرض دون أن تضيف لها شيئا.. إنكم لا تفعلون شيئا سوى الأكل والشرب والتزاوج.
واليوم لا أصدق عينى، فنحن جميعا خارج القفص نتنفس هواء نقيا طالما حرمنا منه لسنوات طويلة، والسيد الكبير وخلفه رجاله داخل القفص للمرة الأولى بما قدمت أيديهم، ولكن هل يظل القفص على حاله؟
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة