أخذتنا الأحداث والثورة وتوابعها الى حالة من الاستغراق فى قضايا واقعية مهمة حقا ولكنها أيضاً مملة، أبعدتنا عن التفكير بحرية وانطلاق فيما تريد نفوسنا ورغباتنا الإنطلاق تجاهه، ولهذا انتابتنى رغبة فى الكتابة بدوافع بعيدة عن ما يفرضه علينا الواقع وقواعد النشر والملائمة وبغير هدف عملى.
حالة الإجبار التى فرضها علينا الواقع فى طرح مشكلات وقضايا بعينها ذكرتنى بحالة الإجبار المفروضة على كل البشر منذ بدء الخليقة بإلزامهم بالحفاظ على حياتهم أو التصاق اراوحهم بأجسادهم وتحمل الحياة بإقبالها وإدبارها وعدم أحقيتهم الانسحاب من تفاصيل الدنيا والتخلص منها باعتبارها منحة إلهية غير اختيارية.. كل الأديان فى ذلك سواء، فهى تتفق فى تجريم المحرر لروحه وتنذره بأبشع أنواع العذاب الأبدى اذا ما انسحب من المعركة الجهادية المفروضة عليه فى الدنيا والتى تتنوع معاركها وتصل الى الملايين من المجاهدات والتفاصيل والتى أكثرها شراسة مجاهدة النفس ونوازعها التى خُلقت معها، وكأن قدر الانسان أن يكون محارباً بغير اختياره فى ساحة معارك أبدية لاتنتهى وفى معارك ممتدة لاتعرف أمل للنهاية المنتصرة أو النهاية المهزومة.
ومعارك الجهاد فى الدنيا معارك تعتمد فى الأساس على نبذ فكرة الحرية فبداية الحياة وجهادها ومجاهدة النفس هى موضوعات مفروضة على الإنسان، وأدوات الجهاد وشروطه غير مطلقة فهى متعلقة بأدوات وقواعد ومفاهيم وشروط دينية سماوية الخروج عنها كفر ونذير بالجحيم الأبدى.. والسعادة الوحيدة فى الدنيا ترتبط دائما بالألآم والتى تتجلى فى الصبر والاستشهاد والعذاب والمجاهدة، أما الانطلاق بالروح والسمو بها خارج القواعد فهذه ليست حق مطلق للإنسان حتى الرغبة فى الانسحاب من المعركة الإجبارية المفروضة على الإنسان ليست إلا حق للرب الذى يملك وحده مفاتيح سعادة البشر المطلقة أو شقائهم الأبدى بصرف النظر عن شراسة الجهاد الدنيوى وملائمة قدرة البشر على التعامل معه أو التحايل عليه كما يفعل المتصوفة.
المشاهد التى أنذرتنا بها الأديان لما بعد الموت هى مشاهد تسود فيها العذابات والعقوبات والرهبة أكثر من مشاهد النعيم والخلاص الروحى.. لهذا فالموت دائما زائر غير مرغوب فيه للبشر الذين يعيشون حياتهم فى رعب دائم منه فلم تعرف البسيطة من هو مطمئن لرضا الرب عنه.
ربما وجد المتصوفة حلا من وجهة نظرهم.. يقول جلال الدين الرومى "أيتها النفس الخائفة والهاربة من الموت، تنبهى! فالخوف نابع منكِ وفيك.. والخوف ليس من صورة الموت، بل من وجهكِ القبيح! فروحكِ شجرة والموت أوراقها".. النفس وحريتها بعيداً عن الجسد هى الطريق المضمون لرضا الرب عند الصوفية وبالتالى النعيم الأبدى ولهذا فإن الموت عند الرومى نوعان موت إرادى وموت طبيعى يعنى الموت الذى نعرفه وفناء الجسد، أما الموت الأرادى فهو قتل كل الرغبات وتعذيب الجسد بحرمانه من رغباته والرياضة ومجاهدة النفس.. فما أسعد من يموت فى الدنيا قبل أن يدركه الموت.
والمجاهدة عند الصوفية هى معركة لها نهاية وهدف واضح وليست مجاهدة مجانية.. والهدف هو التحام ذات المتصوف الواصل بالذات الآلهية دون فرق خلال ثلاث مراحل عبَّر عنهم المتصوفة فى أشعارهم.. المرحلة الأولى والتى يكون فيها الراغب فى الوصول ما زال ملتصقاً بذاته الدنيوية ويناشد الله مساعدته الإستعداد للدخول معركة جهاد النفس فيقول "بينى وبينك أنى تباعدنى عنك.. فأرفع بأنك أنى من البين".. وفى المرحلة الثانية والتى يطلق عليها الغراب الاسود يتخلص الصوفى من ذاته ولكنه لم ينعم بعد بذات الله فيصرخ مستغيثاً "أغيثونى من الله.. أغيثونى من الله.. أغيثونى من الله، فأنه اختطفنى منى ولم يردنى إليه".. أما المرحلة الثالثة فهى مرحلة المكافأة والوصول والسعادة الأبدية فتلتحم ذات المتصوف بذات الله ويصبح لسان المتصوف هو لسان حال الله وعبر عنها الحلاج قائلاً " نا الحق والحق للحق حق.. لابس ذاته فما ثم فرق" وهنا يتخلص الإنسان من دنياه المادية وتسمو روحه بالالتصاق بذات الرب.
ولكن موقف الصوفية هنا يشبه الذى فسر الماء بالماء.. فهو هروب من معارك الدنيا وقسوتها الى جهاد أكثر شراسة وقسوة وهو جهاد النفس والتخلص من الجسد بتعذيبه.. حتى أن علماء الصوفية وضعوا المتصوف فى مرتبة أعلى من النبى لوصول الأول الى مرتبته وعلاقته مع الله بالمجاهدة والعذاب أما النبى فعلاقته مع الله عبر الوحى وبمنحة الهية.. المهم أن الصوفية أيضا لم يستطعوا تجنب شقاء ومعارك الدنيا هم فقط غيروا مشاهد النهاية.
الفكر الغربى لم يكن بعيدا عن المأساة ولكنه كان عملياً أكثر ولاعجب أن يكون الغرب مركزاً للفكر الوجودى والبرجماتى.. المأساة أقلقت الفيلسوف الألمانى "نيتشة" والذى انتهى قلقه بحل يتجلى فى الإنسان السوبرمان.. الإنسان القوى ذو المنجزات الاستثنائية فوق البشرية، وأعتقد أن السوبرمان النيتشوى لا يحتاج لمساعدة السماء ولا ينتظرها لهذا فهو يتحمل المخاطر فى الدنيا ويواجهها بنفسه دون انتظار مساعدة قوة غيبية.. ونيتشة لم يكن وثنياً ولا ملحداً.. فهو عندما شك يوماً أن الموت يداهمة طلب من أخته الإسراع بإحضار قسيس لتلاوة الطقوس الدينية.. نيتشة لم يقترب من فكرة الخلق أو وجود الخالق من عدمة أو علاقة الخالق بالمخلوق.. هو فقط أعطى حرية وقوة أكثر للمخلوق فى التعامل مع دنياه بعيداً عن أى معارك مفروضه عليه وبعيداً عن الحصار مابين القواعد السماوية الملزمة ومشاهد الموت والحياة النهائية ودروسها وشروطها، إلا أن نيتشة أيضاً لم يحل مشكلة حرية اختيار التعامل مع الحياة من عدمه.
إذا كان متصوفة الشرق قد واجهوا المشكلة بالارتقاء بالروح، فإن فلاسفة الغرب قد واجهوها بالارتقاء بالوجود المادى للإنسان.. ومازال الإنسان على الأرض يحارب المعارك المفروضة عليه وغالباً دون رغبته ودون حتى حق الإنسحاب منها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة