بعد أن اصطدمت نقاوة الموجة الأولى برمال الشاطئ، وحملت معها كل ما اعترضها من فضلات وحصى وبقايا صخور مدببة، فكان اختلافها وكانت حدتها.. ولكنها احتفظت باتجاه الموجة الأولى، وبرغبة أشد فى تحديد مسار وحفر طريق يصل بها إلى بر أمان، قبل أن تتحول بفعل زلزال متوقع إلى تسونامى يدمر بدلاً من البناء، ويقطع الطريق بدلاً من فتح آفاق جديدة نحو الحرية.
وفى انتظار موجات ثورية كثيرة قادمة، رصد الثوار أسباباً عديدة لمحاولة إعادة قوة الدفع إلى ثورتهم العظيمة:
> مجلس عسكرى تحول- بعد وقفته العظيمة إلى جانب الثورة- إلى انحياز صريح لقوى تريد العودة بالوطن، ليس فقط إلى ما قبل ثورته العظيمة، ولكن إلى ما قبل التاريخ، فإذا به يسلم لهم بالانفراد بإعداد مشروع استفتاء مخاتل، ويعد لهم انتخابات متعجلة بشروط لا تناسب سواهم، بعد قبول مبدأ اختلاط الدين بالسياسة على نحو فج، عن طريق تحايل مكشوف بين «جماعة» و«حزب» يلعبان نفس الدور تحت قناعات تستخدم القانون مطية لإهداره فى نهاية الأمر.
> صمت يشبه التواطؤ على عودة قوى تنتمى إلى العهد البائد، تحت شعارات مؤيدة للمجلس العسكرى والاستقرار.. إلخ. قوى لم تكن على مدى تاريخنا سوى مع النظام - أى نظام- فى مواجهة كل رغبة فى التغيير، لم تخف عداءها للثورة منذ البداية، تحت نفس دعاوى الاستقرار، تنتقل الآن من التأييد للرئيس المخلوع إلى تأييد «الرئيس الخالع»، فى انتهازية مكشوفة على طريق محاولة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.. وهم فى ذلك يتساندون على تيار سلفى أعطى بالفعل أوامر للعقل أن يكف عن العمل، مكتفياً بمن فكروا نيابة عنهم منذ قرون عديدة، وهم بالتسمية، لا يراهنون على المستقبل، ويناصبونه العداء.
> شعب محبط لا يحس بوصول الثورة إليه فى رزقه، أو فى حريته، أو -وهو الأهم- فى شعوره بالكرامة، فقتلة الشهداء لا يبدو أنهم يحاكمون محاكمة عاجلة، وأجهزة الداخلية تتواطأ لحمايتهم، وإعطائهم مزيدا من الوقت للضغط على الشهود والضحايا، وتمكنهم من الإفلات بـ«تواؤمات» قضائية تذكرنا بنظام ساقط.. فبات الناس يتساءلون: لماذا عندما أهان اثنان من المحامين وكيلاً للنيابة، صدر فى خمسة أيام فقط حكم نافذ بالسجن خمس سنوات، وقبض على المحاميين ونفذا العقوبة.. لماذا لا تسرى نفس القواعد على قتلة الثوار، وعلى مجرمى النظام؟!
والمرء يتساءل أيضاً: ما «توازنات» هذه الأجهزة التى تدفعها على الصمت على الإضراب الصامت والمستمر لجهاز الشرطة منذ ما يقرب من ستة أشهر؟.. هل هناك دولة تملك مقومات الدولة الحديثة تصمت على مثل هذا التمرد؟.. الشعب لا يجد شرطياً واحداً فى الشارع منذ حركة الشرطة الأخيرة، وقبلها لم ينزلوا إلى الناس سوى بشروطهم القديمة التى لم يعرفوا غيرها، ولم يجدوا من يجبرهم- بالقانون- على غيرها.. لا مبالغة على الإطلاق فى القول بأن هناك انقالاباً صامتاً تديره الشرطة حتى تعود إلى صدارة المشهد القديم، قامعة للناس، متحكمة فى مقدراتهم، «سيدة» لهم وليست شريكاً فى صنع مجتمع يحظى المواطن فيه بحقه فى الحرية والكرامة الإنسانية.
قامت الثورة إذن بموجتها الثانية أكثر حدة وأقل صبرا.. وجوه جديدة غاضبة لم تصقلها خبرة الطبقات المثقفة، ولكنها لا تفتقد روح الثورة ورغبة النصر كاملاً غير منقوص.. وكالعادة استجاب النظام جزئياً لمطالب الثوار، فرأينا تغييراً وزارياً، وحركة شرطة، ومحاكمات علنية، وإعلانا دستوريا يلتزم به المجلس العسكرى، يحد من جبروت تيار لا يعترف بالتحالفات التى وقّع عليها «عادته التى لن يشتريها»، بل يتظاهر بتحدى المجلس العسكرى إذا أقرها، وهو المؤيد الدائم له حتى عندما استفتى الناس على ست مواد، ثم أصدر إعلاناً لم يستفت عليه أحدا فى ستين مادة.
ولكن لماذا يحس الناس وأنا من بينهم، أن الدائرة تغلق على الجميع؟.. لماذا نفتقد زخم الثورة الأصيل، واندفاع الثوار نحو طريق واضح؟.. لماذا يحس الناس أن معظم الحديث يدور حول أشخاص، ومطالب جزئية، وغير متناسقة فى كثير من الأحيان، وتصعيد غير منطقى فى أحيان أخرى؟
التصور أن جميع قوى الثورة فى حاجة إلى التقاط أنفاسها.. فى حاجة إلى الجلوس معاً وبلورة «اتفاق مبادئ» صارم يحدد ببساطة «من نحن»، و«ماذا نريد لهذا الوطن».. جملة من الاتفاقات حول طريق واضح نسير فيه جميعاً لبناء وطن نفخر به.. نحن فى حاجة ماسة إلى ترك التفاصيل من وزراء ومحاكمات تهدف إلى إلهائنا عن استشراف خطا المستقبل.. وأن ننتبه إلى أننا نعيش لحظات فارقة فى تاريخ هذا الوطن.. فإما بداية حقيقية لدولة حديثة فى عالم جديد، أو حرية كاملة، وعودة غائبة إلى عصور الظلام.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة