وصلت المأساة ذروتها عندما وقف أعضاء الكونجرس الأمريكى يصفقون بحرارة عدة دقائق لرئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو بعد أن انتهى من خطابه الذى طرح فيه «مبادرة نسف السلام» وإجهاض القضية الفلسطينية، والغريب أن التصفيق الذى تكرر ٢٥ مرة، ولا يحدث حتى فى أشد برلمانات العالم تخلفا ازدادت شدته بعد عبارات الرياء والنفاق من نتنياهو وهو يقول لأعضاء الكونجرس «بارك الله فيكم»، «إسرائيل ليس لديها صديق أفضل من أمريكا، وأمريكا ليس لديها صديق أفضل من إسرائيل».. حدث ذلك يوم الثلاثاء الماضى، وجاء رد الفعل العربى على طريقة «لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم».. مأساة بحجم الصمت العربى، لأن نتنياهو لم يكذب ولم يتجمل، وطرح خطته الإجرامية بوضوح شديد، مؤكدا أن القدس هى عاصمة إسرائيل الأبدية الموحدة، ولا عودة لحدود ٦٧؛ لأنها تهدد أمن إسرائيل، وأن الدولة الفلسطينية التى سيكون أول من يعترف بها فى الأمم المتحدة لن تزيد سنتيمترا واحدا خارج الضفة والقطاع، ولا حل لمشكلة اللاجئين إلا داخل الأراضى الفلسطينية، واشترط على أبومازن أن يبادر بالاعتراف بيهودية دولة إسرائيل وأن يحرق المصالحة التى أبرمها مع حماس، ونصح السلطة الفلسطينية بالبحث عن حلول إبداعية لقضية القدس تسمح لأبناء الديانات الأخرى أن يمارسوا شعائرهم تحت الوجود الإسرائيلى.
لم يفهم أحد ماذا يقصد نتنياهو حين قال إنه مستعد «لتقديم تنازلات مؤلمة من أجل السلام»، بعد أن وضع المتاريس وسد الطرق وأغلق الأبواب، وأجهض المحاولات اليائسة التى يبذلها الرئيس الأمريكى أوباما الذى اقترح قبل أيام إقامة دولتين إسرائيلية وفلسطينية على حدود ٦٧، ولكن نتنياهو تحداه قبل سفره لواشنطن وقرر إنشاء ١٢٥٠ وحدة استيطانية فى القدس، وتراجع أوباما كعادته فى إطلاق تصريحات فى الهواء لا تصمد طويلا فى مواجهة مبادرات نسف السلام التى يتبناها نتنياهو.
وصلت المأساة ذروتها لأن رد الفعل العربى لم يصل حتى إلى الشجب، ولم يصدر عن أى عاصمة عربية أى بيان يستنكر تصريحات نتنياهو ويحذره من مغبة الانسياق وراء مبادرات استفزازية تزيد حدة الغضب فى الشارع العربى الذى لن يصبر طويلا على عربدة إسرائيل وخططها التوسعية والاستيطانية، وتؤدى إلى زيادة اتساع الهوة بين الحكام والشعوب، مما قد يضطر الحكومات العربية إلى اتخاذ مواقف أكثر تشددا من إسرائيل، ويبدو أن نصف الشعوب العربية مشغول الآن بالثورة، ونصفها الآخر بإجهاض الثورة.
مأساة بحجم الضعف العربى، أو على حد تعبير عمرو موسى: فليس أمام العرب إلا الذهاب إلى الأمم المتحدة للحصول على اعتراف دولى واسع بالقضية الفلسطينية، لأن نجاح السلام أصبح كعشم إبليس فى الجنة، رغم سقوط الذرائع والمبررات التى كانت تلجأ إليها إسرائيل بأنها لا تجد من تتفاوض معه بعد المصالحة التاريخية للفصائل الفلسطينية التى أنهت مناورات اللعب على الخلافات الفلسطينية، رغم الاقتناع بأن الأمم المتحدة كانت سببا فى تكريس ضياع الحق العربى على مدى ستين عاما.
السؤال الملح الآن: ما الحلول الإبداعية التى يمكن أن تنقذ السلام غير إبداعات نتنياهو لقتل السلام؟ أولا: لا يستبعد قادة حماس العودة إلى خيار الكفاح المسلح من جديد، خصوصا أن شعوب المنطقة أصبحت مشحونة بطاقات هائلة من الجرأة والقوة فى أعقاب ثورات الربيع التى أسقطت الحلول الاستسلامية وأعادت للشعوب ثقتها فى نفسها، وقدرتها على إجبار الحكام على الانصياع لإرادتها، ولو تجرأت إسرائيل الآن على اقتحام غزة وقتل المدنيين مثلما فعلت منذ ثلاث سنوات فسوف تتحول الأرض تحت أقدامها إلى نيران تحرق الأخضر واليابس.
ثانيا: تتبنى السلطة الفلسطينية الآن مقترحا بتشكيل حكومة وحدة وطنية تضم كل ألوان الطيف السياسى، وتبدأ مرحلة مختلفة من اللحمة ووحدة الصف، وإعادة بلورة موقف عربى قوى وفعال مع بداية ولاية جديدة للجامعة العربية يقودها دبلوماسى عنيد وله مواقفه القوية تجاه إسرائيل وخططها التوسعية.. مأساة القضية الفلسطينية أنها ظلت فى جميع مراحلها فى «عنق الزجاجة»، حتى التهم العنق الزجاجة نفسها، فهل تتزحزح ولو قليلا، أم تعود إلى نقطة الصفر من جديد ولا يكون أمام العرب إلا العودة إلى شعار «ما أخذ بالقوة، لا يسترد بغير القوة»؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة