تحركت السيارات ببطء فى نفق شارع البحر الأعظم المؤدى إلى شارع النيل، النفق القصير يصبح المرور فيه أصعب مع بطء حركة السيرـ الأمر الذى أصبح يحدث يومياً الآن، السيارات تكافح كى لا تصطدم ببعضها، فى المنتصف تماماً ظهرت المرأة السمراء ذات الثوب الأسود، فزعت لما رأيتها أمامى فجأة وحاولت الحفاظ على توازن سيارتى، فأنا لم أر إنساناً أبداً يسير فى هذا المكان.. أوقفت السيارة سريعاً حتى انتبهت إلى أنها امرأة تتسول رزقها بمسح زجاج السيارات، اندهشت أكثر لما رأيت أخرى تجلس على اليسار فى النفق تبيع المناديل الورقية، ثم ثالثة تجرى وراء السيارات لتبيع هى الأخرى مناديلها.
النساء السمراوات الثلاث، اخترن المخاطرة بحيواتهن فى سبيل كسب العيش، وقفن فى مكان لم يسبقهن إليه أحد؛ بحثاً عن فرصةٍ لشراء خبز اليوم فى نهاية نهارهن، هن بائسات للغاية لا يملكن سوى هذه المجازفة للعيش بشرف.
النساء الثلاث هن أنفسهن نموذج لما قد يئول إليه حال كثيرٍ من نساء المحروسة، ففى مؤتمر صحفى أعلن أبو بكر الجندىـ رئيس الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، أن معدل البطالة فى مصر ارتفع إلى 11.9% منذ بداية العام الجارى، )وفقًا لمعايير منظمة العمل الدولية) مقابل 8.9% خلال الربع الأخير من العام الماضى، وكان الجهاز نفسه قد أعلن أن عدد النساء العاملات فى مصر يبلغ 4.676 مليون، من إجمالى 23.829 مليون، هى تعداد قوة العمل فى مصر.. القوة الرسمية بالطبع.
ولأن دراسات سابقة قد رصدت أن ما يقرب من 25% من الأسر المصرية تعولها النساء وحدهن، وما يقرب من 50% من الأسر المصرية تشارك النساء فى إعالتها بشكل أساسى، وهذا أيضاً وفقاً لما هو مرصود ومعلن؛ نصبح أمام وضع يزداد صعوبة فيما يخص فرص النساء فى سوق العمل، ما يعنى أن ما يقارب ربع الأسر المصرية سيكون عائلها مهدداً فى رزقه، ونصف الأسر سيتأثر دخلها الرئيسى.. وما خفى كان أعظم.
فى ضوء كل ما يجرى الآن على أرض مصر، النساء مهمشات فيما يخص قدرتهن على المنافسة فى سوق العمل لأسباب لا تعد، منها: حين تقل فرص العمل يفضل أصحاب الأعمال توظيف الذكور لا الإناث لأسباب تتعلق بتقاليد المجتمع وقدرة الرجال على البقاء خارج منازلهم لفترات أطول، واستطاعتهم العودة إلى منازلهم فى أوقات متأخرة من الليل، ناهيك عن أن لائحة تشغيل النساء لا تجيز تأخيرهن إلا للضرورة، ونظراً لظروف الشارع المصرى الذى أصبح يفقد أمنه مساءً سترفض أسر كثيرة عودة بناتهن من العمل بعد مغادرة النهار، فالموت جوعاً حينها سيكون أفضل لهذه الأسر من العيش بفضيحة تعرض البنت للاغتصاب، ونتيجة القلق على الأبناء فى المنزل ستفضل نساء كثيرات البقاء بجانب أولادهن لحمايتهن، وهذا أيضاً ما سيفضله أزواجهن، أما ما لا يقل خطورة.. فهو اضطرار النساء لقبول بشروط عمل أسوأ مما تضمنه لهن قوانين العمل لمجرد الحصول على فرصة، وهو الأمر الذى تفرضه ظروف الحاجة... إلخ
المخاوف كثيرة، خاصةً أنه فى ظروف كالتى نعيشها قد يصبح الحديث عن ظروف النساء أو حقوقهن غير ذى أولوية، لكن المؤكد أن النساء السمراوات الثلاث سيبقين فى أماكنهن يذكرنا كل يوم أن كثيراتٍ غيرهن بلا عائل ولا مورد ولافرصة عمل.. فقط رغبةً فى الحياة بشرف.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة