ستة عقود كاملة عاشتها مصر محرومة من مؤسساتها التى تم استبدالها بأفراد يحكمون ويتحكمون، فكل شىء كان يبدأ وينتهى عند الرئيس، أيا كان هذا الرئيس، من رئيس السعاة إلى رئيس الأرشيف ورئيس المصلحة، وحتى رئيس الوزراء ورئيس الدولة، المؤسسات كانت غائبة أو مغيبة بفعل فاعل والدولة كلها مختصرة فى أفراد، ليس لأن مصر معدومة المؤسسات والقيادات أو عقرت عن إنجاب كوادر لديها القدرة على العمل، وإنما لأن سطوة الأفراد كانت هى الأعلى وقانونهم هو الأقوى، والذى يحكم، فلم يكن مسموحا ذكر اسم الوزارة أو الهيئة إلا فيما هو سلبى أو انتقاد، لأن الوزارة هى التى تفشل، أما الوزير فهو الذى يظهر اسمه دوما فى الإنجازات والقرارات الحكيمة التى لولاها لغرق مركب الوزارة وفى القضايا القومية اسم الرئيس أعلى من الدولة، هو الذى يأمر وينهى ويطبق القانون ويعفى منه، وهو الذى يفتح الملفات ويغلقها، مصر هى الرئيس والرئيس هو مصر أيا كان اسمه، جمال أو السادات أو مبارك، وفى ملفات عديدة لم يكن مسموحا أن يصدر القرار أو يبدأ التحرك إلا باسم الرئيس وأذنه وبتوجيهاته الملهمة، وكثيرا ما كان مندوبو مصر فى محافل دولية ومفاوضات مصيرية يعطلون كل ما لديهم من مهارات وقدرات شخصية انتظارًا لتعليمات الرئيس القادمة من القاهرة حتى ولو ترتب على هذا الانتظار ضياع حق مصر، فالمندوب مندوب يمثل الرئيس وليس مصر وله خطوط حمراء لا يتعداها حتى لا تحرقه نارها، فعندما حاول مندوب مصر أثناء التفاوض مع الجانب الإسرائيلى على أحد الملفات المصيرية أن يرد اعتبار بلده التى تعرضت للإهانة كان القرار الرئاسى عقابه وتحويله إلى مجلس عسكرى ليس لأنه خالف الأعراف الدولية، وإنما لأنه تجاوز حدوده وتصرف دون استئذان، ولولا أن حمية المندوب على بلده كانت السبب فى تراجع الجانب الإسرائيلى وانجاز التفاوض لما خرج من هذا المأزق سالما بسبب الغضب الرئاسى عليه، لكن أمام نجاح المفاوضات لم يكن من المناسب محاكمة المندوب الدبلوماسى واكتفوا بإحالته إلى التقاعد مبكرا، وفى ملفات كثيرة كان المسئولون ينتظرون تحرك الرئيس وتعليماته خشية أن يجتهدوا بالتحرك فينالهم الغضب الرئاسى، ووصل الأمر إلى أنه لو غاب الرئيس أو انشغل لأى ظرف أو لم يكن مهتما أصلا بالملف، فمن الممكن أن يضيع الملف وينتهى لمجرد أن أحدًا لم يكن يجرؤ على ممارسة دوره ومهمته حتى لا يكون متجاوزا ويحدث ما لا يحمد عقباه إن لم يكن من الرئيس نفسه فمن أحد المتطوعين من رجاله.
هذه كانت مشكلة مصر الحقيقية التى لم تكن تخفى على أحد، مكانة ضخمة تضيع بسبب غياب العمل المؤسسى وسيطرة الرئيس الفرد، وربما لهذا السبب وإدراك أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة أهمية المؤسسية وخطورة تغييبها فقد حرصوا منذ توليهم إدارة البلاد على الالتزام بالعمل المؤسسى الذى بدأ يعود رويدا رويدا فى هدوء وبأداء منضبط، فمن يتابع بدقة تعامل المجلس العسكرى مع إدارة البلاد خلال الشهور الثلاثة الماضية يلحظ سريعا أنه أعاد للمؤسسية حقها المهضوم لعقود طويلة، وأيقظها من نومها السرمدى الذى كان مكتوبا عليها، والحقيقة أن هذا الاحترام للمؤسسية لم يكن سببه أن المجلس العسكرى يريد مغازلة مؤسسات أو هيئات ولا كان يرغب أن يتهرب من المسئولية وتحميلها لغيره من الوزارات والهيئات المختلفة، وإنما كان السبب الأساسى هو أن رجال المجلس تربوا داخل القوات المسلحة على المؤسسية التى تطبق قواعدها على كل رجال الجيش ويحترم أصولها الجميع، الكبير قبل الصغير، من القائد العام نفسه وحتى أحدث جندى مجند فى الوحدات، فداخل القوات المسلحة كل فرد يعرف دوره وواجباته وحقوقه لا يزيد عليها ولا يزايد، ولذلك ظلت القوات المسلحة هى الوحيدة بحق التى يطلق عليها المؤسسة العسكرية، فلم يكن هذا المسمى تجاوزاً أو مبالغة ولكن وصف لواقع العمل فى القوات المسلحة.
ولأن كل رجال الجيش تعلموا فى مدرستهم العسكرية معنى المؤسسية وأهمية احترامها فقد كان طبيعيا أنهم عندما تلقى على عاتقهم مسئولية إدارة البلاد فى وقت حرج أن يعتصموا بما تربوا عليه وتعلموا احترامه، لم يستسلم أعضاء المجلس العسكرى لبريق السياسة ولم تسقطهم فى شباك فتنتها، وإنما قدموا نموذجا فى أسلوب الإدارة الجماعية التى يختفى فيها الفرد تماما لدرجة أن رئيس المجلس العسكرى المشير محمد حسين طنطاوى، الذى حاول البعض تصويره على أنه رئيس للبلاد يحكم كما كان يحكم من قبله، رفض هذا الأمر وأصر على الإدارة الجماعية، ليس فقط فى نطاق المجلس العسكرى، وإنما على مستوى الدولة كلها وفى إطار تنسيق وتكامل، بل إن المشير طنطاوى فى كثير من الأحيان يرفض أن تصدر القرارات باسمه أو أن يكون التصريح منه مباشرة، وإنما يتحدث ويصدر القرارات باسم المجلس العسكرى.
وطوال الفترة الماضية فتح المجلس العسكرى الباب أمام كل المؤسسات فى مصر سواء الرسمية أو الأهلية كى تعمل فى حرية لإنجاز ما لديها من ملفات فى حدود مسئولياتها بلا تخوين ولا تهميش لأحد، فالكل يعمل باسم مصر ولمصلحتها وطالما يحقق المصلحة فلابد من مساندته ودعمه، وهو ما حدث فى ملف مياه النيل الذى ظل خلال النظام السابق حكرًا على الحكومة والرئاسة فتعرضت مصالح مصر المائية للخطر، لكن عندما فتح المجلس العسكرى الباب لإسهام المجتمع المدنى وتكونت الوفود الشعبية المدعومة رسميا أنجزت ما فشلت فيه تحركات الأفراد على مدى سنوات طويلة وبدأنا نسمع خطابا أفريقيا مختلفا تجاه القاهرة كل مضمونه إيجابى ويحترم الحقوق التاريخية لمصر.
العمل المؤسسى أيضًا هو الذى لعب الدور الحاسم فى إنجاز المصالحة الفلسطينية المتعثرة لسنوات بلا مبرر، فعندما تم التعامل مع الملف بمنطق المؤسسية التى تحكمها المصلحة المصرية وتختفى فيها المصالح الشخصية والحسابات الضيقة لأشخاص أيا كانت مواقعهم رئاسية أو وزارية، تقارب الفلسطينيون وتجاوزوا ما كان مرفوضا تجاوزه من قبل وتمت المصالحة التى أربكت الحسابات الإسرائيلية وأعادت لمصر دورها المفقود فى هذا الملف.
التعامل المؤسسى أيضا كان هو المنقذ من التنازع العربى على منصب أمين عام جامعة الدول العربية، وكانت كلمة السر هى عدم التعامل مع المرشح المصرى على أنه غير قابل للتعديل أو التغيير، مثلما حدث قبل ذلك مع فاروق حسنى المرشح لمنصب مدير عام منظمة اليونسكو، ففى حين تعامل النظام السابق مع فاروق حسنى باعتباره هو المرشح الوحيد ولم يقبل النقاش حوله، معتبرا ذلك من قبيل التجاوز فى حق مصر ففقدت مصر المنصب، تعامل المجلس العسكرى بمنطق آخر يقوم على أن المهم هو المنصب وليس اسم المرشح، لذلك لم نفقد المنصب وأيا كان الاسم، مصطفى الفقى أو نبيل العربى فالمنصب مصرى وهذا هو المهم.
وبجانب كل هذا لعبت المؤسسية دورًا فى ملفات داخلية عديدة سواء فى ضمان الاستقلالية لقرارات جهات التحقيق فى قضايا الفساد والكسب غير المشروع أو الدفع فى اتجاه التحرك الجماعى لدعم الاقتصاد المصرى أو تحمل الشعب مسئوليته فى استعادة الأمن.
الخلاصة أن العودة إلى المؤسسية إنجاز سيحسب للمجلس العسكرى وسيفرض على أى رئيس قادم لمصر أن احترامه وعدم الخروج عليه، لأنه لم يعد مقبولا أن يكون الرئيس هو المؤسسة الوحيدة التى يحترمها الجميع وغيرها لا قيمة له.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة