تعانى بعض أطياف الحركة الإسلامية اليوم من تقديم العاطفة على العقل والمظهر على الجوهر.. والظاهر على الباطن.. والمشاعر على الحسابات الدقيقة.
وقد يحرص بعضها على دغدغة مشاعر الشباب على بث العلم والفقه الإسلامى الصحيح.. كل ذلك مع إغفال نشر وترسيخ فقه الأولويات وفقه المصالح والمفاسد.. وفقه النتائج والمآلات وفقه المراجعات.
وهى أنواع هامة من الفقه الإسلامى لا غنى للمسلمين عنها فى كل مراحل حياتهم.. سواء كانوا أفراداً أو جماعات أو دول.
وقد ظهر ذلك جلياً فى مظاهر كثيرة فى الأشهر القليلة الماضية.. حيث فضل البعض دغدغة المشاعر بغير حق.. وكسب العوام على حساب مصلحة الإسلام والأوطان.
ولعل ذلك جلياً فى قضية "عبير صبرى" تلك السيدة التى كانت تعيش حياة سيئة مع زوجها المسيحى الذى كان يضربها ويشتمها ويسبها.. ثم طردها من بيتها بعد أن أنجبت بنتاً.. لأنه من بيئة تفضل الذكور على الإناث.
فعاشت فى بيت أسرتها معلقة.. لا هى مطلقة ولا هى متزوجة.. فلجأت إلى الإسلام وأشهرت إسلامها.. ليس حباً فى الإسلام.. ولكن سعيا ً لحل مشكلتها.
لتتحول المشكلة من قضية اجتماعية إلى دينية.. ثم تحولها الكنيسة إلى قضية احتجاز مواطنة مصرية بغير مسوغ قانونى.. ثم يحولها بعض الدعاة إلى أزمة طائفية بالدعوة إلى المظاهرة أمام كنيسة إمبابة حيث كانت "عبير" محتجزة فى ملحق من ملحقاتها.
ثم تتحول المظاهرة إلى اقتتال ودماء وفتنة وحرق لكنيسة إمبابة كادت أن تحرق معها الوطن كله.. فكم أزهقت من أرواح مسلمة.. وكم من جراحات حدثت من أجل امرأة مشكوك فى صدق إسلامها.
وقد أكد لى ذلك كل من عاش معها خلال الفترة الماضية.. فقالوا إنها لم تصلِ منذ إسلامها.. ولم تحفظ شيئاً من القرآن.. فهى أسلمت حقاً.. ولكن لا أثر لهذا الإسلام على قلبها وجوارحها.. فماذا ستضيف عبير إلى الإسلام حتى نقيم الدنيا ولا نقعدها من أجلها؟
أما الكنيسة فوقعت فى الخطأ القاتل المتكرر، وهو احتجازها دون وجه حق.. وكأنها إذا أسلمت ضاعت المسيحية كلها التى تجاوز المليارين فى العالم.. هذه المشكلة البسيطة أحرقت كنيسة.. وكاد الوطن أن يحترق معها أيضاُ.. كل ذلك دون أن يستفيد الإسلام شيئا ًمن ذلك.. ودون أن تجنى الأوطان من هذه القضية خيراً.
ثم تلا ذلك مظاهرات قبطية أمام ماسبيرو سدت أبواب الرزق أمام كل التجار فى ماسبيرو ووكالة البلح وبولاق أبو العلا.. حيث فصل المتظاهرون المنطقة بالكامل عن باقى القاهرة لمدة أسبوع كامل وكانوا يفتشون كل من يدخل إليها.. وهذا أدى بالتالى إلى اشتباك عدد كبير من التجار معهم.. مما دعا البابا شنودة إلى توجيه رسالة شديدة اللهجة للمتظاهرين يدعوهم فيها إلى الانصراف.. وأعتقد أن البابا شنودة أدرك بذكائه السياسى أن مثل هذه المظاهرات زادت عن حدها وقد تشعل نارا ً فى مصر لا تنطفئ أبداً.
فماذا لو كنا تركنا المرأة وشأنها فلا الكنيسة تتدخل فى أمرها.. ولا الإسلاميون يهتمون بشأنها؟.
ألم نكن قد استرحنا وأرحنا.. ووفرنا على بلادنا كل هذه الأزمات.. ولم تحدث كل هذه الاستقطابات الحادة.. وكل هذه الحرائق الطائفية التى انتقلت إلى كل مكان فى مصر؟.
إنه الغياب الكامل لفقه الأولويات .. فلدينا ملايين المسلمين فى مصر لا يهتم بهم أحد.. ولا يسعى أحد لتعليمهم دينهم.. وقد يبيت بعضهم جائعاً عرياناً.. فلا يهتم بهم أحد.. وهؤلاء أولى بالاهتمام من أمثال عبير.. ولكنه الإغفال الكامل لفقه الأولويات وفقه المصالح والمفاسد.
فمن كان أولى بالرعاية والعناية عبير؟.. أم بعض المسلمين الذين يحتاجون إلى كل شىء ليستقيم دينهم وتستقر دنياهم؟.
أما النموذج الثانى.. فهو تلك الدعوة التى انتشرت كالنار فى الهشيم بالزحف إلى فلسطين.. وهذه الدعوة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.. وهى دعوة تدغدغ العواطف فقط دون أن يكون لها أى مردود عملى يفيد الإسلام أو الأوطان أو القضية الفلسطينية نفسها.
فما معنى أن تزحف الملايين من مصر صوب الأراضى المحتلة.. إنه يعنى ببساطة إعلان حرب على إسرائيل.. والطرف الذى أعلن الحرب هو فصيل من الشعب دون إرادة بقية الشعب أو إرادة الدولة أو مؤسساتها العسكرية والسياسية والاستراتيجية.
وهذا يصطدم بمبدأ إسلامى هام شرحته فى كتاب قديم اسمه "إعلان الأحكام السيادية من اختصاص الحكام".. وتحدثت فيه عن الأحكام السيادية.. ومنها إقامة الحدود وإعلان الحرب أو الصلح هو من اختصاص الحكومات دون غيرهم.. لما اختصهم الله من قدرات خاصة لا تتوافر لدى الجماعات أو الأفراد.
وكأننا نسينا كل دروس الستينات قبل نكسة 1967م.. حينما كانت مصر تقدم دغدغة العواطف واستمالة العوام على التخطيط الدقيق العلمى المحكم للقادة العسكريين والسياسيين والاقتصاديين.
فكيف نحرر القدس قبل أن يوجد فى مصر رئيس دولة.. وقبل أن يكون هناك برلمان.. وفى ظل هذه الفتن الطائفية التى تموج كموج البحر فى بلادنا.. ومع الاقتصاد المصرى المتردى الآن.. وفى ظل فارق تقنى كبير بيننا وبين إسرائيل؟
وهل هناك فصيل من الشعب يفرض الحرب على أمته دون أن تستعد لها.. فالحروب ليست تسلية نتسلى بها أو بابا ً لدغدغة العواطف.. فالحروب لا علاقة لها بالعواطف من قريب أم من بعيد.. لكنها تخضع لحسابات دقيقة سياسية واقتصادية وعسكرية وإستراتيجية يقوم بها أهلها فى سرية تامة دون ضجيج أو إعلان.
وقد أحسن المجلس العسكرى حينما أصدر بياناً يحذر فيه من هذا الزحف الشعبى.. وهو أدرى بالمصالح الإستراتيجية لمصر وغزة وفلسطين معا.. كما أحسنت قيادات من الحركة الإسلامية المصرية بإلغائها هذه المسيرات.. لأنها ستدخل مصر فى مواجهة لا تريدها ولا ترغبها وليست مستعدة لها.. ليس مع إسرائيل وحدها ولكن مع كل حلفائها الغربيين.
وعلينا أن نذكر شباب اليوم أن مشاعر المسلمين كانت دفاقة وفياضة تجاه فلسطين بعد نكبة 1948م.. وقامت مئات المظاهرات والمسيرات والتدريبات العسكرية لطلاب الجامعات فى مصر وغيرها.. ورغم ذلك ضاعت فلسطين وقامت دولة إسرائيل.
أما حينما خططت مصر وسوريا للحرب عسكرياً وإيمانياً واقتصادياً وسياسياً وتكنولوجيا فى صمت وأناة وروية دون ضجيج أو استفزاز لأحد.. كان نصر أكتوبر جائزة لنا وصدمة للإسرائيليين ورفعة للعرب جميعاً.
إننا لن نحرر الأقصى بمجرد العواطف أو المشاعر.. ولكننا سنحررها بالبذل والجهد والعمل والبحث العلمى والتقدم التكنولوجى ومحاربة الفساد والسرقة والرشوة وعودة الأمن والأمان.. وأن نتحرر أولاً من حالة الفوضى واللامبالاة التى نعانى منها.. فلن يتحرر الأقصى إلا بعد أن تكون مصر قوية فى كل شيء كما حدث من قبل مع صلاح الدين والصليبيين وقطز والتتار.
وعلينا أن نفرق بين عاطفتنا الصادقة لرؤية اليوم الذى يتحرر فيه الأقصى.. وبين أن نزج ببلادنا فى أتون حرب وهى مازالت تعانى من أعراض أمراض مزمنة عاشتها منذ 30 عاماً كاملة.. وهى لم تتعافَ منها بعد.. يا قوم علينا بتفعيل فقه الأولويات وفقه المصالح والمفاسد فى الأجيال المقبلة.. حتى نتفادى الحرائق والهزائم داخل مصر وخارجها.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة