كتب جورج أورويل رواية مزرعة الحيوانات، والتى نشرت فى إنجلترا يوم 17 أغسطس 1945 وهى إسقاط على الأحداث التى سبقت العهد الاستاليني وخلاله قبل الحرب العالمية الثانية، لا تعرض الرواية وحسب فساد الثورة على أيادى قادتها بل كذلك إلى كيف يدمر الانحراف واللامبالاة والجهل والطمع وقصر النظر أى أمل فى اليوتوبيا، وتبين الرواية فساد القادة كنقيصة فى الثورة (لا يعيب فعل الثورة ذاته)، وتبين كذلك كيف يمكن للجهل واللامبالاة بالمشكلات فى الثورة أن تؤدى إلى وقوع فظائع إن لم يتحقق انتقال سلس إلى حكومة الشعب وتعد الرواية مثالا من الأدب التحذيرى على الحركات السياسية والاجتماعية التى تطيح بالحكومات والمؤسسات الفاسدة وغير الديمقراطية إلا أنها تؤول إلى الفساد والقهر هى ذاتها بسقوطها فى كبوات السلطة وتستخدم أساليب عنيفة ودكتاتورية للاحتفاظ بها.
بالرغم من اختلافى الكامل مع تناول اورويل للشيوعية السوفيتية حتى مع تحفظى على النظام السوفياتى المنهار، إلا أننى أجد فى روايته تشابها ليس باليسير مع مجريات الأحداث على الساحة المصرية حتى مع غياب القادة الفرديين لثورة يناير، فالحركات التى دعت للثورة قررت حق الوصاية على الشعب المصرى ومقدراته السياسية والاقتصادية بل زاد الأمر حتى وصلت إلى مرحلة الإحساس المتضخم بالذات و بالغت فيما قامت به و تناست أنه لولا وجود شعب فاض به الكيل وأضنته المعاناة فزادته إصرار على الاعتصام فى الميادين ومواجهة الظلم والرد على العنف - بما يصل ال1000 شهيد ليس بينهم من ينتمى لأى من هذه الحركات أو حتى يعرف أهدافها أو برامجها - لما نجحت هذه الثورة.
ثم نمرر الآن بشكل من أشكال الصراع التحتى بين هذه الحركات وبعضها البعض بدأ منذ الأيام الأولى للثورة عند ظهور أسماء محفوظ على شاشة قناة المحور الفضائية فتسابق زملاؤها لرفضها كمتحدثة باسمهم مرورا بظهور وائل غنيم على شاشة قناة دريم الفضائية فتسابق زملائه لنفى أنه صاحب الدعوة أو العقل المدبر وراء مجموعة "كلنا خالد سعيد" ثم تصريحات أحمد ماهر للمصرى اليوم والخاصة بإمكانية اللجوء لمجلس الأمن فى حال عدم تنحى "حسنى مبارك" مما جر عليه ويلات الانتقاد من أطياف مختلفة بين شباب 25 يناير، إلا أن ما يثير الفضول والتعجب هو أن الغالبية العظمى من الشعب المصرى قد خالفت ما دعت له هذه الحركات بل خالفت ما دعا له مرشحو الرئاسة عند الاستفتاء على التغييرات الدستورية دون أن يحاول أحد أن يحلل هذه الظاهرة!!
على صعيد آخر، بدأت بعض الأصوات التى أراها كانت من دواجن العهد البائد فى الظهور بوصفها أصوات الثورة ولسان حال الشعب المصرى فما كان منها سابقا سوى النقد المتناقض لحال الأمة سابقا وذلك للحفاظ على شعرة معاوية بينهم وبين النظام المخلوع فتستمر الحياة الرغدة الهانئة ويظل أطفالهم فى مدارسهم الدولية ومنهم من كان ينتقد متهكما ممتلئا بالمرارة ولا يجرؤ على المصارحة الكاملة وإلا ذهب وراء الشمس بالمعنى الحرفى للكلمة ثم كان هناك من الإعلاميين أصحاب الملايين والذين يأتمرون بأمر الرئيس المخلوع راجين رضاه أو من كانت علاقتهم بلجنة السياسات شديدة العمق ويفتخرون بصداقتهم مع جمال مبارك وكيف يعبرون عن تقديرهم له بإطلاق لقب الأستاذ عليه وأؤكد أن المواصفات المذكورة عالية لا تنطبق على أشخاص بعينهم حتى لا يجهد القارئ نفسه بمحاولة معرفة الاسم وحتى أكون من المنصفين فقد كنت أنا من أولئك الذين يهاجمون وينتقدون بكل مرارة مع عدم مهاجمة الرئيس المخلوع بشخصه وإنما اكتفيت بمهاجمة النظام ككل وذلك حفاظا على شعرة معاوية فتستمر الحياة الرغدة الهانئة ويظل أطفالى فى مدارسهم الدولية (و لا أظن أن هناك غيرى من يستطيع أن يدلى باعتراف مثل هذا أو مصارحة كتلك).. وبالحق أقول إن مثل أولئك كثر ما بين داجن وأليف وطامع وطامح فى ما لا يستحق، ولكن لا تستقيم الأمور عندما تقرر الدواجن أن تصير أسودا كاسرة تهاجم هذا وتفترس ذاك، ليس لأن الفريسة لا تستحق بل لأن المفترس لا حق له فى هذا الشرف.
إن الوطن يمر الآن بأصعب مراحله على مر 40 عاما مضت فهو لازال فى معترك ثورة لم تنته و لن تنتهى فى القريب العاجل حيث يواجه تيارات سلفية شديدة الرجعية تحمل فى أدبياتها تصريح بالعنف المعلن وتيارات أخرى كالإخوان المسلمين تباينت مواقفهم برفض المشاركة فى 25 يناير ثم التزام الصمت ثم المشاركة الواضحة وأخيرا اغتصاب الثورة لصالحهم مع وجود بوادر انقسامات داخلية تبدت باستقالة محمد حبيب من مجلس شورى الجماعة ثم بدأت بالتجلى عندما بدأ شباب الإخوان بتكوين كيان شبه مستقل عن الجماعة الأم فى إشارة إلى عدم اقتناعهم الكامل بالفكر العام للجماعة، ثم نذهب إلى مجموعات ليست بالقليلة تنوعت أسمائهم ما بين ائتلاف 25 واتحاد شباب الثورة بلا ايدولوجيا او فكر سياسى تاركين أنفسهم متقلبين بين أمواج صراعات المفكرين السياسيين الجدد من أصحاب النظريات الورقية بلا أدنى تجربة عملية ثم اعتصامات فئوية لا غرض منها سوى المصلحة الشخصية المنفردة وبعيدة كل البعد عن مصلحة الوطن كما يحدث داخل ماسبيرو الآن وأخيرا تنظيمات تحت أرضية يقودها مجموعة من ضباط أمن الدولة السابقين تحت إشراف مجموعة من قادة الحزب الوطنى السابقين ممولين بمليارات مصرية منهوبة وأخرى خليجية مجلوبة.. يرى كاتب هذه السطور أن مصر ستمر بمرحلة ثورة الثورة فى الأيام القليلة القادمة خاصة مع إصرار المجلس العسكرى على إجراء انتخابات برلمانية فى سبتمبر ضاربا عارض الحائط بكل التخوفات المذكورة عاليه بل مع استمراره فى إجراءات متشددة تبدو فى ظاهرها أكثر لينا مما تعودنا عليه ولكنها تظل شكلا من أشكال السيطرة على الحياة السياسية وفرض إرداته على 85 مليون مصرى تاركا دواجن نظام مبارك ليصيروا كائناته الأليفة، بدلا من الدعوة لحوار وطنى موسع يعطى للشعب حق المعرفة والنقاش والاختيار الواعى.
فليعى الجميع أن مصر وطن للمصريين وليست مزرعة دواجن..
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة