فى طفولتى، كان زميلى فى الفصل مسيحيا يكتب موضوعات التعبير عن المساجد التى زارها فى الإسكندرية مع والديه، وكنت أكتب موضوعات التعبير عن الكنائس التى اعتدنا أن نشعل فيها شموعا للسيدة مريم التى نحبها، بصحبة جيراننا المسيحيين، ولابد أن السنوات التى تلت طفولتنا هى التى جعلت أجهزة الأمن تنشط تماما لفرض محاولات بائسة من الوقيعة بيننا، وصكت -وهذا هو الأهم- مصطلحا سيئ السمعة اسمه «الفتنة الطائفية»، حاولت أن أعرف من صك التعبير أو تاريخ تسميته، لم أعرف، أعرف فقط أنه مصطلح يجب أن نتوقف فورا فى الصحف عن استخدامه، كذلك كل وسائل الإعلام ورجال الدين ورجال السياسة، ما يحدث بين حين وآخر يمكن أن نسميه، دون أن نختصر حجمه: «خلاف فى الرأى»، وفى ذروة وقمة هذه الخلافات لا أذكر أن هناك مسلما تكلم مع صديقه أو جاره المسيحى عنها، أو قطع مسيحى علاقته بصديقه أو زميله أو جاره المسلم بسببها، لم يحدث، ولم يحدث أن جاءت السيرة أيضا، فالخلاف أيضا يجب أن نضعه فى حجمه، وهو أنه بين عدد من المسلمين وعدد من المسيحيين، ليس الجميع ولا هم الأغلبية، ويكون عادة أقرب إلى خلاف سياسى منه إلى خلاف دينى، خلاف على مطالب، وليس خلافا على ممارسة فروض أو شعائر!
دور الإعلام أن يشرح، أن يحمل مصباح العلم والتسامح ليضىء المسافات المعتمة بين مسلم ومسيحى، نمحو مصطلح الفتنة، ونضعها فى حروفها الطبيعية، خلاف يحتاج إلى حوار جاد وجيد ومسموع وراق وعلمى ومتحضر وحقيقى، كلانا لا يرغب من الحياة سوى الاستقرار والأمان والعمل وعبادة الله فى هدوء يليق، كلانا يؤمن بما جاء فى الآية الكريمة «لكم دينكم ولى دين»، كلانا فى الوطن إخوة إلى أبعد حد، بشكل منطقى، وفى حياة كل منا عدد من الأصدقاء أقرب لنا من أنفسنا، كلانا بشر فيه السيئ وفيه من يملك أخلاقا طيبة، كلانا فيه المتعلم المتسامح وفيه الجاهل المتشدد، الأمر فى مصر -حقا- ليس نزاعا طائفيا بين مسلم ومسيحى، هو نزاع بين عاقل وجاهل فى الدين الواحد، أو فى الاثنين معا.
استخدم الأمن لسنوات مصطلح الفتنة الطائفية للرعب، والعبث فى العلاقة المتينة بين الطرفين، استخدمها لحماية نفسه، وحماية سطوته، وحماية أفعاله، وحماية النظام، وحان الوقت لنفكر، فقط لنفكر، هل هناك بين المصريين -حقا- ما يمكن أن نسميه بفتنة طائفية، فى مصر تحديدا، أم أن المصطلح أكبر من الواقع، وقد يؤدى إعادة استخدامه وتداوله إلى حدوثها بالفعل فى المستقبل البعيد، لماذا لا نمحو هذا المصطلح بآخر أكثر وعيا وحكمة، بحقيقة علاقة المصريين بعضهم ببعض، لتعود المسافات الضيقة التى صنعها الأمن عن عمد دائما، والإعلام عن عمد أحيانا، وعن سذاجة غالبا، إلى الالتئام مرة أخرى فى أسرع وقت.
لا أخاف أبدا على مصر من اشتعال نار بين مسلم ومسيحى، أبدا.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة