كنت - ومازلت - من الذين يعتقدون أن المجلس العسكرى الحاكم لا يطمح إلى وراثة حسنى مبارك فى حكم مصر لأسباب عديدة أهمها فى رأيى، أن الثورة حققت للمجلس أهم هدفين كانا يؤرقانه كمؤسسة مستقرة تتابع تردى أحوال الوطن وتعجز عن مد اليد لإنقاذه بسبب من هذا الاندماج العضوى فى النظام السابق المهترئ.. الهدفان كانا التخلص من مشروع التوريث الذى يمثل إهانة لكل أفراد القوات المسلحة العريقة، والثانى هو إضعاف مؤسسة الأمن الداخلى التى تعاظم دورها وتضخمت مخصصاتها لدرجة فاقت وزارة الدفاع للمرة الأولى فى التاريخ المصرى الحديث. تحقق الهدفان بمجرد أن أبدى المجلس العسكرى عدم رغبته فى القضاء بالقوة على ثورة الشعب المصمم على النصر، وخاصة بعد أن غض المجلس «الحاكم الفعلى فى هذا الوقت العصيب» البصر عن المحاولة الجبانة والوحشية لإنهاء الثورة والقضاء على الثوار فى يوم الأربعاء الدامى.. ولما تشبث الثوار بثورتهم العظيمة أدرك الجميع أن الواقف فى الجانب الخاسر سيدفع الثمن فادحا، فكان إجبار الرئيس على الاستقالة وما تلا ذلك من أحداث.
وكان الثوار وهم يغادرون الميدان مطمئنين تماما «وربما هذا كان خطأهم الفادح» أن المجلس الذى غامر بالوقوف مع الثورة سوف يحترم إرادة الثوار. صحيح أن مطالب الثوار بعد إسقاط النظام لم تكن واضحة تماما ولم يكن مجمعاً عليها.. إلا أنها لم تكن بالقطع هى إعادة إنتاج النظام السابق تحت مسميات جديدة، وهو الأمر الذى يفعله المجلس الحاكم الآن بحسن نية، أو بعجز عن الفهم أو بقلة الكفاءة، أو بالتواطؤ الصريح مع بقايا النظام السابق، وأطراف خارجية لا تريد انطلاق الثورة فى مسارها الحر.
كان أمام المجلس الحاكم - مهما قلت كفاءته- أن يدرك أن هذه الثورة تعبر عن رغبة عميقة فى التغيير الشامل وأن يسرع بإنجاز دستور جديد وانتخاب رئيس جمهورية يشكل حكومة إنقاذ وطنى تمهد لإجراء انتخابات جديدة بعد استتباب الأمن ومعرفة خريطة الدولة نحو السلام ونحو الحرية.
ولكن المجلس الذى أعطاه المصريون كل الحب وكل الثقة بدأ بالضبط يسلك عكس هذا الاتجاه.. تشكيل لجنة غير متوازنة لتعديلات دستورية مبهمة، والدعوة لاستفتاء معيب، ثم إصدار تعديلات على ما استفتى الشعب عليه، ثم محاولة مغازلة تيارات التطرف الدينى من أجل الاحتفاظ بميزات فى الدولة الجديدة، ثم نقل محاولات الغزل السياسى إلى التيارات الليبرالية بعد أن أدرك إمكانية عدم وفاء المتطرفين بوعودهم وصولا إلى الموقف الحالى الذى يحس معه كل المصريين أن الثورة العظيمة التى أنجزوها فى مهب الريح بسبب إدارة شديدة السوء لشؤون الوطن يشترك فيها الجميع. إن استمرار العناد بالقبض على النشطاء لأسباب واهية وتلفيق اتهامات مضحكة لهم، واستمرار الغباء السياسى المتمثل فى موقف الداخلية التى تريد استعادة هيبتها المفترضة عبر العودة إلى قتل الناس بحرية، واستهانة شديدة بعقول الناس فى حادث ماسبيرو وفى أحداث التحرير الأخيرة لا حل له إلا بمحاكمة عاجلة لقتلة الثوار. إن الحديث عن «طرف ثالث» يقتل الناس لم يعد ممكنا الآن.. هذه الوزارة يجب أن تمضى غير مأسوف عليها وأن تشكل فوراً حكومة للإنقاذ الوطنى كاملة الصلاحيات، وأولى هذه الصلاحيات تقديم المسؤولين عن القتل - وخاصة بقايا جهاز أمن الدولة المنحل الذى لايزال يعمل بطرقه الخسيسة القديمة - إلى المحاكمة ووقف اعتداءات الشرطة العسكرية - بكل أساليبها الوحشية والقميئة - على المدنيين، والإنهاء الفورى لحالة الطوارئ ومحاكمات المدنيين أمام المحاكم العسكرية، ووضع أسس بناء دولة حديثة ودستور جديد وانتخابات لمجلس الشعب فقط «دون الشورى الذى لا يريده أحد» على أسس دستورية محددة للعلاقات بين السلطات الثلاث. هذه أفكار أولية لا تسمح المساحة للحديث فى تفاصيلها ولكن المهم أن يبدأ المجلس الحاكم بالاعتراف بعجزه الكامل عن إدارة الوطن بشكل منفرد، وأن الحل هو ما نادى به الجميع: العودة للناس وللثورة وللحق.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة