الاختلاف حول اسم مليونية الجمعة الماضى وأهدافها، ليس الأول والأخير فقد سبقته اختلافات وانقسامات عديدة بين القوى التى صنعت الثورة، والمفارقة أن جمعة النصر هى التى كشفت عن عمق الانقسام فى صفوف الثوار، فرغم كلمات القرضاوى الجامعة فى التحرير إلا أن قوى الثورة لم تعمل بها، والأهم لم تدخل فى حوار بينها حول مستقبل مصر ما بعد الثورة، بل انشغلت بجزئية واحدة فى هذا المستقبل تتعلق بمدنية الدولة ومرجعيتها.
انشغل النقاش العام بهذه الجزئية ولم يتناول طبيعة النظام الاقتصادى ونمط التنمية المطلوب، وشكل الممارسة الديمقراطية والعلاقة بين السلطات، ودور الجيش والشرطة.وجاء الاستفتاء على الدستور ليعمق الانقسام بين معسكرى القوى المدنية والقوى الإسلامية، والحقيقة أن التسمية غير دقيقة، واختزالية وقاصرة عن إدراك الواقع. فأغلبية الشعب لاتصنف نفسها فى أى من المعسكرين، وربما لاتعرف شيئا عن طبيعة الاختلافات بينهما. كما أن أغلبية القائلين بمدنية الدولة هم مسلمون، مثل إخوانهم المنتمين لجماعة الإخوان والسلفيين.
ومع طرح مسألة الدستور أولا أم الانتخابات، ثم المبادئ الدستورية ووثيقة السلمى التى تعمق الانقسام وأضيف إلى ذلك غياب الثقة. ومن الجائز القول بأن المجلس العسكرى ومستشاريه استفادوا من هذا الانقسام ووظفوه لصالحهم. لكن من الأمانة العلمية الاعتراف بأن الانقسام فى صفوف النخبة السياسية والثقافية المصرية متأصل فى تاريخنا منذ الحملة الفرنسة ونهضة محمد على، واتخذ أشكالا متعددة وتسميات شتى، منها الصراع بين القديم والجديد، أو التجديد والمعاصرة، أو بين الحداثة والأصالة، وطال هذا الانقسام والصراع الثقافى قضايا التعليم والهوية والملبس والدستور والقانون.
والمدهش أن المجتمع المصرى نجح فى التوصل إلى صياغات وتوافقات تقلل من حدة الانقسام والاستقطاب وتفرز تيارا وسطيا معتدلا، تجسد فى اجتهادات محمد عبده وحزب الوفد قبل الثورة الذى كان حزبا وطنيا ليبراليا، فى دولة مسلمة. لذلك نجح فى توحيد وقيادة الشعب المصرى. وجاء عبدالناصر ليطرح صيغة وسطية، استجابت لتحديات الخمسينات والستينات ولم تدخل فى عداء مع الإسلام رغم صدامها مع الإخوان، كما لم تنقل الماركسية بل قدمت نمطا من الاشتراكية المصرية. لذلك حافظت على الوحدة الوطنية وحققت إجماعا وطنية اهتز مع هزيمة 1967.
وسطية محمد عبده والوفد والناصرية كانت محل نقد وهجوم دائم، فقد كانت تجمع متناقضات، كما لم يسمح عبدالناصر بحوار مجتمعى وتوافق حقيقى بين المختلفين معه، لكن ما أحوجنا فى هذه الأيام لاستلهام - أرفض النقل الحرفى - هذه الاجتهادات والممارسات الوسطية التوافقية، فى ضوء تحديات واقعنا. ولاشك أن هناك صعوبات جمه أمام هذا البديل الوسطى التوافقى اهمها التراث الهائل من الجمود الفكرى والسياسى، والشحن الطائفى والفساد الذى تراكم فى الأربعين سنه الأخيرة، إضافة لارتفاع أصوات أقصى اليسار فى معسكر القوى المدنية، وأقصى اليمين فى معسكر القوى الإسلامية.
ولاتوجد وصفة جاهزة فكرية أو تنظيمية لظهور البديل الوسطى التوافقى، وإنما هناك شروط رئيسية هى الحوار، والعودة للعمل الجماعى، واعتراف قوى الثورة بأنها ارتكبت خطيئة الانقلاب على أساليب وأدوات تلك الثورة العظيمة، ممثلة فى الحوار والثقة المتبادلة والعمل المشترك. لابد أن تجلس القوى التى صنعت الثورة - مهدة بالفشل الآن - كى تتحاور وتصل إلى توافقات حول مهام المرحلة ومستقبل مصر. أقول وأكرر لابد من هيئة مستقلة غير حكومية لتنظيم وإدارة هذا الحوار كى نتوصل إلى حلول وسط تفكك الانقسام والاستقطاب الثقافى والسياسى بين القوى المدنية والقوى الإسلامية، التى من المؤكد أن بينها كثيرا من المشتركات.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
abo eyad
رائع