هذه قصة قديمة بعض الشىء من زمن الرئيس المخلوع ومظالمه، إعادة قراءتها الآن لا تعنى بأى حال تضييع مزيد من الوقت بقدر ما تعنى التأمل والتدبر فى قدرة الخالق عز وجل على قلب كل الرؤوس على عقب، هى دليل حقيقى على الدستور الإلهى القائل «يمهل ولا يهمل». أم فقيرة تجد بالكاد طعام عشائها، لديها ولد هزيل وضعيف أثقله مرض الفقر والجهل، تطاول وسرق باكو شاى منذ عدة سنوات فسحبه جزارو قسم شرطة المنصورة إلى سلخانتهم وعذبوه على جريمته حتى لفظ أنفاسه الأخيرة ورفضت المستشفيات تسلمه ليموت أمام أمه على سريرها، وتبدأ هى رحلة البحث عن الحق الضائع بلا فائدة أو أمل، وشاءت الصدفة أن أكون بجوارها فى أحد الأيام أمام مكتب المحامى العام للمنصورة وأسمعها وهى تبكى داعية الله بأن ينتقم لها من ضباط الشرطة، ثم رفعت سقف دعائها حينما طردوها من أمام مكتب المحامى العام ودعت الله أن يريها يوما أسود فى مبارك وأهله وخصوصا السيدة زوجته سوزان التى أرسلت لها السيدة العجوز عشرات الفاكسات دون مجيب.. تعالى نقرأها.
«كانت تحمل وجعها فى قلبها، وتسير من المستشفى إلى دارها، ومن دارها الصغيرة المتواضعة إلى مكتب المحامى العام بالمنصورة تفترش أرضه بجلبابها الفلاحى المعتاد وتضم إلى صدرها كيسا بلاستيكيا من الأوراق.. هذا تقرير طبى بصفحات كثيرة تضم ما لا يحصى ولا يعد من خروم وجروح وحرائق وكدمات فى جسد صاحبها، وهذه ورقة أخرى تحمل شهادة حق من أطباء ضميرهم مازال يقوى على النبض تؤكد وقوع أبشع عملية لطفلها، وأوراق أخرى لبلاغات ووعود بمعاقبة الضابط المسؤول عن تلك الواقعة لم يتم تنفيذ كلمة واحدة منها،
حتى «الرحمة» التى تعلو سطور كل جواب ضمن البداية المعتادة لأى خطاب مصرى «بسم الله الرحمن الرحيم» لم يلتفت إليها أحد، ومابين أوراق الشكوى وأوراق التوسل تبقى ورقة وحيدة لا تغادر صدر الأم الحزينة أبدا، شهادة وفاة ابنها محمد ممدوح «قتيل شها».. هل تذكرونه؟
من المؤكد أن الطفل القتيل ومأساته ذهبا إلى أبعد مكان فى ذاكرة المصريين، جفف كل منا دموعه ورتب حدوته «محمد» ترتيبا تصاعديا وفقا للجروح والخروم والكدمات الموجودة من إصبع قدمه حتى شعر رأسه وطوى صفحته وركنها فى سلة مهملاته الإنسانية.. ونسى أو ربما تناسى، إلا تلك المرأة التى تساوى مائة رجل لم تنس، وظلت لمدة عامين وثلاث تجرى هنا وهناك وتسعى لاستعادة حق ابنها الذى عذبه ضابط فى مركز المنصورة وألقى به فى موقف سيارات وجسده ينزف آخر ما تبقى له من دماء وآخر ما تبقى من روحه على الأرض حتى مات، ثم دفنوه دون أن يصلوا عليه, وما بين الأم التى كانت تسعى لاستخراج عظام ابنها والصلاة عليها، وأم أخرى كانت تسعى أيضا وبقوة لأن تدمى قلوب بلد بأكلمها من أجل أن تستخرج شهادة سلطة لابنها وتضعه خليفة لوالده فى حكم هذا الوطن عشت أياما مع لعبة المتناقضات التى تدغدغ تاريخ مصر ومشاعر مواطنيها، بين والدة «قتيل شها» التى تظهر صورتها بائسة ومرهقة ولم تأكل منذ أيام ولا يساندها أحد، وبين والدة جمال مبارك التى كانت تظهر صورتها فى صدر الصفحات الأولى ضاحكة وواثقة من قدرتها وتساندها صحف مصر ومؤسساتها من أجل تحقيق هدفها.. ما بين هذه الأم التى تريد حقها وتلك الأم التى كانت تريد أن تسلب المصريين حقهم.. كانت الصورة الأسوأ لذلك الوطن فى عهد الرئيس المخلوع.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة