عندما تنصت إلى طبول المرشحين التى بدأت تقرع بقوة فى مولد الانتخابات، ستكتشف أن معظم هذه الطبول جوفاء، لا تصدر الموسيقى التى تتناغم مع حاجات ملايين المصريين فى هذه اللحظة التاريخية الفاصلة. صحيح أن فكرة إجراء الانتخابات فى حد ذاتها فكرة نبيلة ومهمة، لكن شريطة ألا يسطو على مقاعد البرلمان الجديد بالتزوير وقوة النفوذ فلول النظام السابق، ورجال الأعمال الفاسدون وما شابههما.
للأسف الشديد، فمنذ أن نجحنا نحن المصريين فى طرد حسنى مبارك من عرين السلطة فى 11/2/2011، وحتى هذه اللحظة لم تتحسن أحوال الفقراء فى مصر، وأخذ الذين آل إليهم حكم البلاد يتلكأون فى إصدار القرارات التى تنصف ملايين العمال والفلاحين والموظفين الصغار والمهمشين والعاطلين عن العمل، وتعيد ضبط إيقاع الحياة السياسية على أسس ديمقراطية حقيقية.
بنظرة سريعة على ما حدث طوال العقود الأربعة الأخيرة، سيتضح لنا أن كل القرارات السياسية والاقتصادية كانت تتخذ لصالح الأثرياء ورجال الأعمال والأفاقين، فى الوقت الذى تم فيه إهمال البسطاء والطبقات الفقيرة إهمالاً جسيماً، حتى صار لدينا أكثر من أربعين مليون مصرى يعيشون تحت خط الفقر وفقاً لمعايير المؤسسات الدولية.
لقد أدى تراكم الثروة المصرية فى أيدى حفنة قليلة من أصحاب السلطان والنفوذ والمال إلى كارثة يومية يكابدها الفقراء، بعد أن قتلت الدولة الساداتية ثم المباركية بالتدريج فضيلة العدالة الاجتماعية، ثم تولى جمال مبارك وزبانيته دفنها فى عشوائيات وخرائب مصر!
لا أظن أننا بحاجة إلى الفكر اليسارى مثلما نحن الآن، ولا أعتقد أننا سننهض من جديد ونحقق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية إلا إذا استرشدنا بأضواء الاشتراكية الحقيقية والنبيلة، تلك التى تدعو إلى وضع برنامج سياسى واقتصادى واجتماعى وثقافى عاجل ينهض على إعادة توزيع الثروة بصورة أكثر عدلاً، برنامج يشحذ الهمم لبناء المزيد من المصانع المنتجة لاستيعاب ملايين العاطلين. برنامج يحافظ على الأراضى الزراعية، ويزيد من مساحتها، برنامج لتطوير التعليم تطويراً جذرياً يمجد التفكير العلمى ويشجب الخرافة. برنامج يعيد البهاء للفنون والآداب وحرية الفكر والإبداع. برنامج يرسخ مفاهيم الشفافية وتداول السلطة التى أهدرتها بكل أسف أنظمة مشبوهة زعمت أنها اشتراكية فيما مضى مثل الاتحاد السوفييتى السابق وألمانيا الشرقية وكوبا والصين والكثير من أنظمتنا العربية البائسة!
أرجو ألا تظن أننى عندما ألح على ضرورة الاستعانة بالأفكار الاشتراكية النبيلة لبناء مصر جديدة، أن ذلك يعنى معاداة الرأسماليين الوطنيين الذى يستثمرون أموالهم فى تعزيز الاقتصاد الوطنى وتنمية شوكته. هذا غير صحيح، فلكى نبنى وطناً حديثاً ينعم فيه الناس، كل الناس، بحياة حرة وكريمة وجميلة ينبغى أن يساهم كل الشرفاء فى بنائه.
لذا يتعجب المرء كثيراً حين يلقى نظرة على الواقع المصرى بعد إسقاط رأس النظام السابق وحفنة من أتباعه، ذلك أنه بعد مرور تسعة أشهر لم تتخذ أية خطوات جادة ليست فى إنصاف الفقراء فحسب، بل فى قتل الفقر نفسه، وعليه ظلت الأوضاع الظالمة كما هى، فالفقراء يزدادون فقراً وحرماناً من الخدمات الصحية والتعليمية إلى آخره، والأغنياء يراكمون الثروات أكثر وأكثر. (لاحظ من فضلك احتجاجات الأمريكيين والأوروبيين حالياً ضد سطوة رأس المال والشركات العملاقة ومديرى البنوك فى دولهم لتدرك كيف وصلت الرأسمالية الجشعة ببلدانهم إلى طريق مسدود).
أجل.. مازالت الشفافية غائبة، فلا نعرف حجم ميزانية الدولة بالضبط وكيف يتم إنفاقها، بل لا نعرف شيئاً عن رواتب الوزراء وأعضاء المجلس العسكرى وكبار رجال السلطة ومديرى البنوك إلى آخره. كما لا نعرف متى ستجرى انتخابات الرئاسة، وهل سيتنازل المجلس العسكرى عن الحكم برضاه؟
باختصار.. إعادة إحياء الفكر الاشتراكى الديمقراطى النبيل أصبح ضرورة ملحة حتى يلعب دوره المهم فى قيادة البلد نحو آفاق أكثر عدلاً وحرية وجمالاً، بدلاً من أن تظل مصرنا العظيمة رهينة للعسكر والفاسدين وأصحاب الفكر المتشدد والمنغلق، وما أكثرهم وأقواهم فى هذه الأيام، وإذا لم تصدقنى.. أنصت جيداً إلى القرع الصاعد حالياً من طبول الانتخابات!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة