انظر إلى الرسومات التى نقشها الإنسان الأول منذ آلاف السنين على جدران الكهوف والمغارات لتعرف كم كان يعانى أسلافنا من الخوف من كل شىء، وعلى إيقاع الخوف بدأ الإنسان الأول يشق طريقه نحو الحياة، إذ أجبره ارتعاده على أن يقيم ظهره؛ ليتمكن من المشى على قدمين، واستخدام اليدين ليدافع عن البقاء، فمادام البقاء للأقوى، كان عليه أولا أن يتخذ من خوفه دافعا للحصول على الأمان، وبسبب الشعور بالخوف والحاجة إلى الأمن ابتكر آلياته البسيطة للوقوف أمام الكون العدو، فصنع سلاحا، وآوى إلى كهف، وخزن طعاما، وارتدى ملبسا، وأنشأ المجتمع الأول فى شكله البسيط الذى تنامى بأطفال وجيران وجماعات.
اكتشاف الإنسان الأول أن الأمان لا يتحقق بشكل كامل فى تأمين احتياجات الإنسان المادية فقط، هو ما دفعه إلى البحث فى الكون للحصول على الاطمئنان، خاصة أن هناك متغيرات عديدة لا يقوى الإنسان على التحكم فيها، مثل الأمطار والرياح والزلازل والبراكين، ومن هناك نشأت الأسطورة، إذ تخيل الإنسان أن لكل عنصر من عناصر الطبيعة إلها يتحكم فيه ويمثله، فتخيل شكله، ورسمه، وابتكر الحكايات عنه، التى تداولها البشر بشغف، ومن الأسطورة نشأ الفن والإبداع، وبابتكار الفن أحس الإنسان أنه ليس وحيدا ولا فانيا، فاسمه ورسمه ومعاركه ومعتقداته، مدونة على الجدار تشب نحو الخلود.
صغر الإنسان وسط هذا الكون الواسع، هو ما أرق عليه صفو الإحساس بالأمان، فكان عليه أن يحتمى بـ«الكبير» ويؤمن بالأنبياء والرسالات السماوية، التى حملها بشر، سعوا منذ البداية إلى الاتحاد بالله والتفكر فى مخلوقاته، وليس غريبا أن تكون الحاجة إلى الأمان من الخوف هى أهم الاحتياجات الإنسانية حسب تصنيف علماء النفس، وأيضا حسب النص القرآنى الذى يقول مذكرا بنعمة الله «قل اعبدوا رب هذا البيت الذى أطعمكم من جوع وآمنكم من خوف».
الفيلسوف الألمانى الكبير جورج هانس جادامير، يرجع فكرة تحضر الإنسان وابتكاراته إلى نظرية يسميها «فاض النشاط» ويقول إنه لم يكن أمام الإنسان بعد أن شبع وسكن ولبس إلا أن يبتكر ويخلق ويؤسس حضارته الإنسانية لوجود فائض فى نشاط الإنسان يجب عليه استهلاكه، لكنى أرى أنه فائض فى الخوف، لكنه الخوف الإيجابى الخلاق، فالخوف من المرض أدى إلى ابتكار الدواء والأمصال، والخوف من هجوم الحيوانات والبشر أدى إلى ابتكار الأسلحة والخطط الحربية، والخوف من الفناء أدى إلى النقش على الجدار، والخوف من الوحدة أدى إلى الإنجاب، فالخوف يختبئ خلف أرواحنا، ونحمله تحت جلودنا، ونزرعه فى عيوننا وقلوبنا، وهو سلاح ذو حدين، إما أن يقتلك ويهزمك دون حرب، أو يدفعك ويحفزك إلى التقدم.
انظر الآن إلى حالة الخوف التى تنتاب البعض من المستقبل والبلطجة وسيناريوهات الفوضى المرتبة فـ«تصعب عليا مصر» وأتذكر بعد انتخابات 2005 أن إحدى المذيعات قابلت مخرجنا العالمى الراحل يوسف شاهين فسألته: ألا تخاف من مشاركتك فى المظاهرات المناهضة للنظام خاصة أنك تقترب من الثمانين؟ فقال لها بلجلجته الرائعة: «أنا أنا أنا أنا ااا... أنا خايف على مصر، هخاف من إيه؟ من الضرب؟ إيه يعنى مانا كمان بضربهم» شاهين صاحب الثمانين عاما كسر الخوف فى داخله، وكذلك فعل شباب مصر، فتحققت معجزات لم نكن نتخيلها، فالخوف على المحبوبة الأولى أنسانا الخوف على صغائرنا وآلامنا البسيطة، وبالخوف أنشأ الإنسان عالمه، ترى من منا «خايف على مصر» وعلى استعداد أن يضحى بأغلى ما عنده من أجلها؟
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
عبد الحق
خطأ في الآيه
عدد الردود 0
بواسطة:
جمال عبد الناصر
أنا