عندما قامت ثورة 23 يوليو 1952 فى مصر والتى قادها تنظيم الضباط الأحرار ظن الجميع فى الداخل والخارج أن لا ثورة فى مصر بعد هذه الثورة التى هزت العالم العربى بأسره، بل وصارت الثورة الأم التى قادت حركات التحرر العربى فيما بعد.. بل واجتهد البعض - حتى يوم الثورة التونسية يناير 2011 - أن الثورات المدنية ليست قادرة على تغيير الوجه السياسى المصرى بشكل خاص أو العربى بشكل عام، نافين أى احتمالات لقيام تقارب فى التجربة بين ما ظل يحدث فى آسيا طوال المائة عام السابقة وبين ما قد يحدث هنا، حتى أن فلاسفة النظم المستبدة فى المنطقة تناسوا بشكل متعمد أمرين فى غاية الأهمية.
الأول: هو دور الحركة اليسارية المصرية منذ عام 1936 وحتى 1952 فى تحضير الشارع المصرى للإطاحة بالنظام الملكى وإجلاء الاحتلال البريطانى ورفع الحماية عن مصر وهنا تجدر الإشارة إلى مذكرات خالد محيى الدين أحد أبز رجال يوليو 1952 وخلافه مع بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر حول إعادة الثورة إلى الشعب مرة أخرى وعدم فرض وصاية الجيش عليه، وكذلك دعم بعض أهم أجنحة اليسار المصرى لمواقف عبد الناصر حتى وهم داخل المعتقلات، خاصة إبان نكسة 1967 وذلك لخلق استقرار فى الشارع المصرى على الصعيدين السياسى والاجتماعى، كما أوضح الكاتب الراحل مصطفى طيبة فى مؤلفيه القيمين "رسائل سجين سياسى إلى حبيبته" و"تاريخ الحركة الشيوعية المصرية"، مما يصل بنا إلى أن الشعب هو المحرك الرئيسى والقائم الأول بالثورات فى مصر وفى سائر الأقاليم العربية المحررة فيما بعد، ولعل الثورة الجزائرية هى أوضح الأمثلة سابقاً والانتفاضة التونسية حالياً.
الثانى: هو أبجدية الثورات التحررية فى العالم أجمع وهو ما يعرف "بثورة الثورة"، حيث تبدأ الثورات بتنقية وإصلاح نفسها ذاتياً، بل وتبدأ فى إفراز كوادر جديدة تعتنق نفس الأيدولوجيات ولكن بعد التنقيح السياسى طبقاً لمتطلبات المرحلة الجديدة والتطهير الذاتى مع دخول التجربة الثورية إلى مرحلة من ثلاث (النضج، اليأس من الكوادر الأقدم، الفساد) تماماً، كما حدث فى الثورة الفرنسية أو ثورات أمريكا اللاتينية، وهو ما لم تمر به ثورة يوليو ودعونا لا نخوض فيما ادعاه السادات حول ما سماه "ثورة التصحيح".
إلا أننا لا نستطيع أن نطلق على يوم الغضب -25 يناير- أنه ثورة الثورة وذلك ليس فقط لطول الفترة التى تفصله عن يوليو 1952 وإنما لأنه لا يحمل فى طياته المقومات الرئيسية لأى ثورة مكتملة فلا يحتوى إلا على المطالب الخمسة والتى كتبت على اللافتات التى حملها عشرات الآلاف من المتظاهرين، فضلاً عن غياب مجموعة المبادئ الرئيسية التى تعلنها أى ثورة كما غاب وجه القائد الأوحد والتوافقى الذى تدفع به أى ثورة ليصير وجهها السياسى أمام العالم، أما الأكثر غياباً والأكثر إلحاحاً هى مجموعة البدائل الواقعية المطروحة لشخوص الفاسدين وبنود الدستور.
يحمل يوم 25 يناير 2011 فى مجمله صورة أكثر إشراقاً للمشهد السياسى المصرى والذى تضاف إليه وجوه ورموز جديدة صغيرة السن قليلة الخبرة، إلا أنها تمتلك عمقاً ونضجاً وانتماءً كاد أن يختفى، وهو الأمر الذى لا يستطيع الاعتراف به السيد وزير الداخلية الذى يصر على عدم نضج المتظاهرين الغاضبين، كما دفع بعبارات قديمة فى زمن جديد على شاكلة (يد أجنبية، لن نصبح عراق آخر) إلا أنه وحتى كتابة هذه السطور فكل الشكر لشرطة مصر فى عيدها على قدرتهم على احتواء المظاهرات.
حمل هذا اليوم وجوه البسطاء من الوطن رجال وشباب ونساء وحتى بعض الأطفال الذين أضناهم الفقر والفساد والبطالة والأمية فخرجت الوجوه بأبهى صورة حضارية للمطالبة الوطنية الشريفة المنزهة عن كل نواقص الحزب الحاكم.. وبمنتهى الهدوء والوعى خرج عشرات الآلاف على مرأى ومسمع من الجميع وبميعاد مسبق رغم أنف الساخرين من جهال الوطن وكتبة الحروف.
علت الأصوات مؤكدة على وحدة صف المصريين من العامة لا النخب السياسية والمثقفة، بل وسطرت كلمات جديدة فى دفتر أحوال الوطن لتوضح الشارع السياسى المصرى يتحرك نحو الأفضل وفى سبيله للمزيد من الحراك السياسى المؤثر رغم محاولات البعض لنشر اليأس والبلادة بين صفوف الشعب المصرى الذى يرزح 93% من أبنائه تحت خط الفقر العالمى (2 دولار أمريكى يومياً) طبقاً للدكتور رشدى سعيد فى دراسة نشرها له كتاب الهلال عام 1995،
حمل هذا اليوم شهادة وفاة أحزاب المعارضة المصرية التى ظلت لأكثر من 3 عقود مكتوفة الأيدى متفرجة على الحزب الحاكم الغارق فى الفساد وعلى الشعب الذى طالما ويظل كاتباً تاريخه بيده فقط.
إن ما نراه اليوم هو مشهد واحد رداً على تزوير انتخابات البرلمان والبطالة والفقر، إلا أننا فى انتظار المزيد من شعب يقدر قيمة الثورة ويحترم قيم الإنسانية ضارباً عرض الحائط بتصريحات كل من اتهم الشرفاء بالعمالة ومن يحاول تلويث كفاحه للحصول على الحرية والخبز أن الشعب الناهض لا يأبه بهؤلاء الذين يعيشون فى أبراج الرخام المذهب.
دعونى أذكركم بحديث مر عليه حوالى 90 عاماً بين طه حسين وفؤاد ملك مصر الأسبق، حيث اشتبك فؤاد الذى كان يتحدث العربية بصعوبة بالغة، قائلاً لعميد الأدب العربى: يا أعمى، فرد طه حسين: الحمد لله الذى خلقنى أعمى حتى لا أرى وجوهكم الكريهة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة