يقولون إن الانفصال (الطلاق) بين الرجل وزوجته هو أبغض الحلال عند الله، لكن الانفصال فى الدولة الواحدة بين الشمال والجنوب، يتحول إلى أبغض الحرام، فالانفصال المحتم بين جنوب السودان وشماله هو (حرام) فى الأساس، بل هو أبغض درجات الحرام، إن كان للحلال والحرام درجات، فماذا بعد انفصال الجنوب فى السودان؟
يتأهب الجنرال "سالفاكير ميارديت" ليكون رئيسا للجنوب المنفصل، وهو الشخص الذى يحكم قبضته على "الحركة الشعبية الجنوبية" التى تحتكر بدورها وتهيمن تماما على جهاز الحكم الذاتى للإقليم، والتى سوف تحكم "الدولة المستقلة" للوهلة الأولى قد يتخيل للبعض أن "الحركة الشعبية الجنوبية" تسيطر تماما على الإقليم، لكن واقع الأمر يؤكد أن الجنوب لم يزل يعيش حربا أهلية على السلطة بلغ عدد ضحاياها 2500 قتيل، فالحركة الشعبية هى الميليشيا العسكرية لقبيلة "الدينكا" تحت اسم "الجيش الشعبى" الذى استفز بقية القبائل المتصارعة مع قبيلة "الدينكا" وكما يقول أمين قمورية فإن القبائل تنشئ ميليشياتها المسلحة مثل قبيلة النوير وقبيلة الشلك التى تمثل مجتمعة الغالبية الساحقة من سكان الإقليم حيث تكمل النوير ثانى أكبر كتلة سكانية فى الجنوب وتقع فى أراضيها معظم حقول النفط المنتجة، وعلى رأس النوير زعيم متمرد بطبعه هو راياك ماشار، وهو يريد أن يكون الرجل الأول فى الجنوب بناء على نبوءة كاهن، وقد يتحالف لهذه الغاية مع المنشق الآخر على الحركة الشعبية الدكتور "لام اكول" زعيم قبيلة "الشلك" وربما يعيد "مشار واكول" سيناريو تحالف فى العام 1991 ضد مؤسس الحركة الشعبية "جون قرنق"، وهناك من نادى بتسمية الإقليم الجنوبى المنفصل باسم "أرض كوش" وهى بالطبع تسمية توراتية يهودية لها دلالات لا تخفى على أحد حيث "مملكة كوش" تنسب إلى "كوش بن حام بن نوح" واتخذت هذا الاسم إبان تتويج "كاشتا" أول ملوك الأسرة الخامسة والعشرين النوبية الذى غزا وضم مصر، لكن "مملكة كوش" تأثرت ثقافيا، اقتصاديا، سياسيا وعسكريا بالإمبراطورية المصرية الفرعونية الواقعة فى الشمال.
كما أن هذه الممالك الكوشية تنافست بقوة مع تلك التى فى مصر، وبعد الانفصال سوف تتقلص مساحة السودان وسوف تتضاءل الإمكانات الاقتصادية، وسوف أنقل هنا ما قاله أمين قمورية بالحرف الواحد فى الكفاح العربى: ستتراجع سيطرة العرب على مقدراتهم المائية والزراعية، وسيواجه السودان متاعب ستنعكس سلباً على الوطن العربى ككل، وقد تدخله فى دوامة من الصراعات التى تمس مصر وغيرها من دول الجوار العربية، والانفصال وإن بدا حلاً ديمقراطياً لمعضلة خلقتها الدول الاستعمارية على قاعدة تقرير المصير لشعب جنوب السودان، إلا أنها خطوة لم تحسبها القيادة السودانية جيداً، وكان من الأفضل لو شاركت كل القوى والأحزاب السودانية فى اتخاذ هذا القرار المصيرى، وتمثل مشكلة تقسيم عائدات النفط وما تستتبعه من ترسيم بعض الحدود، خصوصا تلك التى تزخر بحقول النفط، صداعًا فى رأس الحكومة السودانية، والمعروف أن نحو 70 أو 80% من نفط السودان، يأتى من حقول جنوبية، خصوصا من حقل مدينة أبيى، وهى منطقة تعتبر محور النزاع بين الشمال والجنوب من دون إيجاد حل لها، وتتوزّع الصادرات النفطية إلى 60% من الجنوب و40% من الشمال.
وإذا كان الجنوب يملك غالبية حقول النفط، فإن الشمال يمتاز بأمرين، هما امتلاكه للمِصفاة الوحيدة لتكرير النفط بالسودان، والميزة الثانية، أن خطوط تصدير النفط السودانى تتِم عن طريق ميناء بورسودان، ومشكلة الجنوب، إنها منطقة مقفلة وليست لها أبواب على البحر، ومِن ثم، فإن الطريق الوحيد أمامها لتصدير النفط، إنشاء خط جديد خاص به، ولا يمكنه ذلك على أرض الواقع، إلا عن طريق كينيا، وهى فكرة ستكلفه الكثير وسترفع تكلفة الإنتاج، وتاليا، فليس أمامها غير التفاهم مع الشمال فى تقسيم العائدات، كما أنه يفتقد الكوادر الفنية الخبيرة فى إدارة ملف البترول، ويعتقد بعض الخبراء الشماليين أنه سيتم تقسيم عائدات الصادرات النفطية مناصفة، أى 50% لكل من الشمال والجنوب.
بينما يرى خبراء ومسئولون جنوبيون أن النفط حق مُكتسب للجنوب، وليس للشمال فيه نصيب، وصحيح أن العائدات النفطية تشكل نسبة عالية من الدخل القومى السودانى العام تعادل الـ60%، إلا أن ثمة مبالغة فى تقدير الثروة النفطية السودانية إذ لا شىء يؤكد ما يتردد عن أن هذا البلد يعوم على بحيرة نفط، وحاليا لا يتجاوز إنتاج النفط النصف مليون برميل يوميا وهو متدنى الجودة، وليس من المنتظر أن يزيد الإنتاج بعد الانفصال، ما لم يتم السعى لاكتشاف حقول جديدة، وعدا عن مشكلة أبيى التى لم تسوَّ الأمور فى شأنها بعد، والتى قد تكون سببا لخلاف جديد بين الشمال والجنوب، إلا أن النفط على الأرجح قد يكون سببا للتقارب بين الدولتين أقله فى الفترة الأولى، وإذا كان هناك من يهلل لهذا الانفصال البغيض بدعوى "تقرير المصير" فإنه سوف يرى صراعا مريرا بين الجنوب والجنوب وبين الشمال والشمال وبين الجنوب والشمال، فسوف يبقى الصراع قائما ما دامت الأطماع الأمريكية الإسرائيلية باقية.
• كاتب وروائى مصرى
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة