منذ بداية طوفان المسلسلات الرمضانية (الحصرية وغير الحصرية ومافيش حاجة حصرى كله عندهم مصرى) أطلق العلامة "زاهى حواس" على "كليوباترا" فى المسلسل التليفزيونى لقبا يليق بها وهو "زوبة الكلوباتية"، وحذرنا صديقنا الكاتب الكبير "فرفور" الذى هو الصحفى والناقد الفنى اللامع "فؤاد معوض" أن مسلسل "اللص والكتاب" ضار بالصحة ومن الواجب على المشاهدين الحرص الشديد فى مشاهدته ومن المستحسن الابتعاد عنه، وينطبق هذا التحذير على بقية المسلسلات عند معظم النقاد الذين تصدوا لهذا الطوفان بأقلامهم، وكان ذلك سببا مباشرا لابتعادى سريعا عن شاشة التليفزيون الحصرية وغير الحصرية ورحت أتابع المسلسل التاريخى الممل والمستمر منذ سنوات "المفاوضات المباشرة بين أبو مازن نتانياهو".
قدم التليفزيون المصرى فى عهد وزير الإعلام الأسبق "صفوت الشريف" الدراما التليفيزيونية التى كانت رائدة فى المنطقة العربية حقا لا إدعاء، كان على رأسها كل ما قدمه الراحل الكبير "أسامة أنور عكاشة" وساهم "صفوت الشريف" شخصيا فى تقديم هذا الكاتب الكبير للعالم العربى بصفته رائدا فذا للدراما التليفيزيونية، وكان "صفوت الشريف" يتدخل بنفسه لفض الاشتباك بين "أسامة أنور عكاشة" والرقابة التليفيزيونية حيث كان دائما ما ينحاز لوجهة نظر الكاتب الكبير، كان "صفوت الشريف" شئنا أم أبينا واحدا من أعمدة نظام الحكم، لكنه بلا شك كان تقنيا بارعا فى الإعلام مما جعل النظام الحاكم هو الذى يحتاج إليه وإلى مجهوداته لتحسين صورته إعلاميا وبالرغم من محاولات بعض المعارضين تشويه صورة "صفوت الشريف" بإطلاق الشائعات عليه إلا أنه ظل ماضيا فى تسخير كل مجهوداته وإمكاناته الإعلامية الضخمة لتطوير كل المؤسسات التعليمية ولم ينزلق إلى معارك شخصية تنال من خصومه، ونظن (وليس بعض الظن إثم) أن وزير الإعلام الحالى "أنس الفقي" هو من نفس مدرسة الإعلام التى كان ناظرها "صفوت الشريف" من حيث الثقافة والإمكانات التقنية الإعلامية العالية والفرق بينهما فقط هو فى مدة الخبرة التى قضاها كل منهما فى الوزارة، وهناك فرق مهم آخر بين الرجلين: وهو أن "صفوت الشريف" كان يختار المشرفين على الإنتاج الدرامى بعض أصحاب التقنيات والخبرات الكبيرة فى عملية الإنتاج الدرامى من مسلسلات أو أفلام تليفزيونية أمثال "ممدوح الليثي" و"يوسف عثمان" اللذان كانا بدورهما يختاران الأكفأ والأكثر خبرة فى عملية الإنتاج الدرامى لذلك فقد كان مستوى الدراما التليفيزيونية مرتفعا لسبب واحد هو أن كلا منهما كان يعتمد على لجنة قراءة للنصوص كان يتم تشكيلها من كبار المثقفين والأكاديميين المهتمين بالدراما اهتماما حقيقيا يحمل قدرا من الفهم الحقيقى للدراما، وكان تقرير هذه اللجنة ملزما لكل من "ممدوح الليثي" و"يوسف عثمان" وبالتالى كان "صفوت الشريف" ينحاز للكتاب فى مواجهة الرقابة بناء على تقرير لجنة القراءة العليا التى كانت مكونة من كبار المثقفين والأكاديميين، أما مسلسلات "أنس الفقي" فلم تعد تعتمد فى الغالب على لجنة قراءة عليا للنصوص الدرامية بالرغم من وجود مثل هذه اللجنة لكن توصياتها لم تعد ملزمة للمشرفين على عملية إنتاج الدراما التليفيزيونية، لذلك تحولت "كليوباترة" إلى "زوبة الكلوباتية" وأصبحت المسلسلات الكوميدية ضارة بصحة المشاهدين بفضل السادة المشرفين على عملية الإنتاج الدرامى الذين يستعين بهم "أنس الفقي" حيث لم تعد توصيات لجان القراءة العليا ملزمة لهم وخضعت عملية الإنتاج الدرامى تماما لأصحاب الإعلانات وتحكمت الإعلانات تماما فى الإنتاج الدرامى حيث تعاظم دور المعلنين فى إبعاد النصوص الدرامية التى حظيت بتقدير لجان القراءة العليا المكونة من كبار المثقفين والنقاد والأكاديميين ، وسوف أذكر مثالين لمسلسلين توقف إنتاجهما بفضل ذوق التجار فى مدينة الإنتاج الإعلامي: المسلسل الأول واسمه "نجوم الظهر" جاء فى تقرير لجنة القراءة العليا عنه بالنص حرفيا:
"مسلسل نجوم الظهر من إخراج محمد فاضل، نحن بإزاء عمل مختلف ومتميز عن كثير من الأعمال المنتشرة فى سوق الدراما التليفيزيونية من حيث الفكرة المبتكرة والمعالجة التى تتميز بالجدة والجدية ... دراما اجتماعية تتخذ منحى يحمل قدرا من التشويق ويلعب فيه الغموض دورا كاشفا يضيء للمشاهد جوانب كثيرة من حياتنا المعتمة ذهنيا وإنسانيا...عمل متميز .. فكرة..ومعالجة..وبناء..وحوارا".
هذا هو نص التقرير الذى كتبه أحد الأساتذة الكبار فى لجنة القراءة العليا بمدينة الإنتاج الإعلامى ويمكن للوزير "أنس الفقي" الاطلاع عليه بنفسه مع العلم بأن المؤلف كان قد حصل على نصف أجره عن كتابة المسلسل قبل أن تتوقف عملية إنتاجه على يد السادة مروجى الإعلانات.
أما المسلسل الثانى فهو مسلسل تاريخى يحمل عنوان "زمن البخلاء" وقد جاء فى تقرير لجنة القراءة العليا لمدينة الإنتاج بالنص حرفيا:
"لأن التاريخ لا يعرض على الشاشة لمجرد العرض التاريخى أو المتحفي، بل لأن الكاتب يختار وينتقى ما يريد تقديمه لمخاطبة واقعه، ومقدما إياه عبر دراما تليفزيونية تحظى بمشاهدة جماهيرية، مما يجعل المعرفة التاريخية حقا للتداول الشعبي، ترتدى ثوبا من المتعة التى تزيل جفافها المعروف، وفى هذا الإطار يختار السيناريست موضوعا من لحظة زمنية هامة هى بداية صعود الحضارة العربية ... تكشف الحلقات المقروءة عن اهتمام واضح من السيناريست بالجوانب السياسية والاجتماعية التى عاشتها دولة الخلافة العباسية حيث يواصل بناء عمله الدرامى فى تميزه عبر تقديم القيم العربية وهو ما يتطلب مخرجا لا تشغله الصورة التى يمكن أن تكون مبهرة على الشاشة بديكوراتها وملابسها وشخصياتها ومواقفها الغريبة ولا بد أن تشغله أيضا أحوال الزمن الحاضر وهمومه ... حلقات ممتازة لمسلسل متميز، نوافق على إنتاجه ومنحه التسهيلات الإنتاجية اللازمة للظهور بأفضل صورة، وهو أيضا ما نراه مناسبا للإنتاج المشترك مع قطاع الإنتاج باتحاد الإذاعة والتليفزيون أو أى تليفزيون عربى حريص على تقديم التاريخ العربى بصورة مشرفة".
هذان مثلان على تقريرين صدرا عن لجنة القراءة العليا لمدينة الإنتاج الإعلامى التى كونها وزير الإعلام "أنس الفقي" بنفسه، لكن المسلسلين لم يريا النور بفضل بعض الإداريين الذين يفضلون دائما أمثال "زوبة الكلوباتية" خضوعا للمعلنين الذين راحوا يتحكمون فى عملية إنتاج الدراما التليفزيونية فى مصر الآن.
• كاتب وروائى مصرى .
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة