اعتذر لى موظف الاستقبال فى المستشفى، وهو يشعر بالخجل، مؤكدا أن ما فعله زميله كان ناتجا عن تبلد مشاعره، بسبب طبيعة عمله يوميا مع المرضى، وأضاف: كلهم كده يا أستاذ، فكثيرا ما تحدث حالات موت، وتجد الممرضات والممرضين يضحكون ويمارسون حياتهم بشكل طبيعى".
كنا قد دخلنا المستشفى الكبير فى الواحدة والنصف صباحا، وكانت زوجتى تصرخ بشكل هستيرى من الألم، وبالطبع لم تكن تستطيع الوقوف على قدميها، وكنت أصرخ طالبا كرسى متحرك، قال لى الرجل ببلادة مشاعر "كان المفروض تدخل من باب الطوارئ عشان تلاقى كرسى متحرك"، قالها وهو جالس فى مكانه دون أن ينتفض ويقدم يد المساعدة بأى شكل.
وبالطبع كان رد فعلى عنيفا، ربما أكثر مما توقع هو وزملاؤه، فبلع لسانه تماما، وقال لى زميله فيما بعد إنه أرجع الأمر إلى "أصله كان عصبى شويه"، ولم يخطر على باله أن ينتقد نفسه، ففى بلدنا الزبون هو المخطئ، والقتيل هو المخطئ، فهو الذى وقف فى طريق القاتل.
فيما بعد قال لى زميله إنه تحرك بسرعة شديدة ليس لأنه أفضل من زملائه "متبلدى المشاعر"، ولكن لأنه جديد وبعد قليل سيكون مثلهم.. فهل هذا صحيح؟
لا أظن، فالأمر لا يتعلق بالضمير والمشاعر والأحاسيس، ولكنه يتعلق قبل كل ذلك بكفاءة العمل فى بلدنا، فللأسف كثيرون يعتبرونها أمرا استثنائيا، رغم أن الأجر الذى أحصل أنا وأنت عليه من الزبون ليس مقابل التواجد فى مكان العمل ولكن مقابل القيام بعملنا بمهارة، ومن ثم فالمهارة هى الأمر الطبيعى والبديهى فى أى علاقات عمل، ولكن لا أعرف ما هى أسباب كل هذا الانهيار فى الكفاءة ليس فقط فى هذه المستشفى ولكن فى الكثير والكثير من مناحى حياتنا، حتى أصبح هو الاستثناء، وعندما يحدث نصاب بالاندهاش.
أما الإخلاص فى العمل فهو أمر مختلف، فهو مرحلة ما بعد الكفاءة، وهذا لا يستطيعه كل الناس، ولكنهم قلة فى كل مكان، ومنهم الدكتور عماد سليمان، الذى ظل طوال 9 أشهر فترة حمل زوجتى وفى الولادة، نموذجا استثنائيا فى أخلاق العمل، فالمريض بالنسبة له ليس "حالة"، ولكنه "بنى آدم لحم ودم"، فهل يأتى اليوم الذى يصبح فيه دكتور عماد هو القاعدة وليس الاستثناء؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة