أسوأ شىء هو أن نعتاد على كل ما فى حياتنا من أخطاء وقبح وفساد وخطايا.. فهذا الاعتياد ينقلنا كلنا من خانة الأحياء إلى خانة أنصاف أحياء وأنصاف موتى.. أنصاف أحياء لأننا سنبقى نأكل ونشرب ونتكلم ونتحرك وننام.. وأنصاف موتى لأننا فقدنا القدرة على أى حلم أو تغيير أو اصلاح أو إعادة بناء حقيقى لكل ما وقع وانهار.. وبالتالى فإنه لا حل حقيقى لأى أزمات حقيقية نعيشها كلنا فى مصر إلا بعد التخلص من هذا الاعتياد.. وأن نسترد من جديد قدرتنا على الدهشة والمفاجأة والاحساس بالصدمة والألم والوجع.. ألا نبقى شعبا اعتاد رؤية كبار بأعينهم يسرقون الأراض ويتاجرون بها وكأن هذا هو الطبيعى أو تلك هى القاعدة والاستثناء الوحيد أن يقع كبير منهم فيخضع لمحاكمة أقرب إلى دراما التليفزيون حيث كل شىء فيها معد سلفا ومتفق عليه.. ونبقى شعبا اعتاد رؤية الأب الذى يقتل أولاده أو الابن الذى يقتل الأم والأب والأشقاء يمثلون بجثث أشقائهم.. ولا يصدمنا ذلك أو يربكنا ولا نتعامل معه إلا باعتبار تلك الحوادث أخبارا صالحة للثرثرة فى المكتب أو البيت أو التعليق عليها فى الشارع والمقهى.. ونبقى شعبا يقرأ كل يوم عن الطعام المنتهية صلاحيته أو الدواء أو المخلفات الطبية القاتلة تتحول إلى طعام وألعاب فى أيدى أطفالنا أو فاكهة وخضر نأكلها ونمضغ معها مسببات السرطان.. ونتعامل مع كل ذلك على أنه اختبار من الله سبحانه وتعالى وقضاء ليس فى استطاعتنا أن نرده.. وأشياء أخرى كثيرة اعتدنا عليا.. تعايشنا معها وتعاملنا باعتبارها من حقائق الحياة.. ووصلنا بذلك للدائرة المغلقة التى تجعلنا كلنا بالفعل أنصاف أحياء وأنصاف موتى.. حكومة ومسئولون يمارسون الفساد باعتبار أنه واقع وشر لابد منه.. وصحافة وإعلام يكتبون عن هذا الفساد ليس بقصد محاربته ومقاومته وتغييره وإنما لأن هذه هى وظيفة الصحافة والإعلام ومن أجل ذلك يتقاضى الصحفيون والإعلاميون مرتباتهم..
الناس من الصحافة تتابع أخبار الفساد وجرائمه تماما كما تتابع أفلام للسينما أو مسلسلات لرمضان أو برامج للتسالى والمقالب.. وهكذا اكتفى كل واحد فينا بدوره متخيلا أنه أدى ما عليه من واجب.. الفاسد يسرق ويقتل ويغتصب حقوق الناس وينتهك آدميتهم فى السر ويبكى من أجلهم فى العلن.. والإعلامى أو الصحفى يصرخ وينفعل صادقا لكنه أيضا صادق تماما مع نفسه موقنا بأنه لا شىء سيتغير ولا مجرم حقيقى ستتم معاقبته بما يقتضيه القانون والعدل.. وكثير من الناس يلتزمون الصمت ويكتفون بالفرجة وبعضهم قرر أن يحارب الفساد على الفيس بوك.. يكتبون ويصرخون ويشتمون الجميع.. مسئولين وإعلاميين.. ثم يروحون للنوم وهم فى منتهى السعادة وقد أرضوا ضمائرهم وأتموا فروض مقاومة الظلم ومكافحة الفساد..
لست هنا ألوم أى أحد.. كفانا تلك الحروب الأهلية اليومية التى نخوضها كل يوم لا من أجل إصلاح أو أى تغيير حقيقى وإنما من أجل أن يوهم أحدنا نفسه بانتصاره الآخرين.. وينتصر غداً واحد غيره.. وهكذا نستسلم لهذه اللعبة القاتلة دون أن نفهم أو ندرك أنها لعبة لا أحد سينتصر فى نهايتها وإنما سنخسر كلنا.. وسنموت كلنا.. لست هنا ألوم أحدا أو أعاتبه بقدر ما أنشد خلاصا حقيقيا من كل ذلك.. ولا أزعم أننى صاحب القدرة بمفردى على الخلاص والانتصار على كل ذلك.. وإنما أريد أن أكون واحدا من كثيرين يريدون بالفعل المستقبل الأجمل والأفضل لهذا الوطن.. أتمنى أن توقن الحكومة أنها بهذه السياسة تقودنا كلنا إلى نهاية مخيفة ومفزعة ووقتها لن يجد المسئولون الكبار أى حماية أو حصانة.. أريد ألا ننشغل كلنا بمحاربة كل الفساد فى وقت واحد..
النتيجة الطبيعية لذلك هو خسارة كل الحروب.. والأفضل أن يكون لكل صحيفة أو برنامج أو إعلامى قضيته الخاصة التى لا يتركها ولا ينشغل بغيرها إلا بعد أن ينتصر ونجد ولو فاسدا واحدا وراء القضبان.. أود لو أن الناس كلها استردوا وعيهم وقناعتهم بأنهم أصحاب هذا الوطن وشركاء فيه.. وصاحب الحق أو الشريك الحقيقى لا يمكنه أن يحيل أى واقعة فساد أو اغتصاب إلى نكته يحكيها لأصدقائه بدلا من أن يبكى ويبكى معه الآخرون.. أرجوكم تغيروا.. قاوموا هذه الرتابة والملل والاعتياد.. أرجوكم اغضبوا وثوروا وانفجروا.. ولكن لا تنتظروا أحدا يقود ثورتكم.. مأساتنا الحقيقية تبقى دائما هى أننا ننتظر الفارس المجهول الذى يأتى من بعيد ليقودنا.. وقد انتهى زمن الفرسان والزعماء من العالم كله.. الآن نعيش زمن الناس.. ولا تغيير حقيقى سيحدث ويكتمل إلا إذا تغير الناس.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة