كلما أظلتنا ذكرى ثورة يوليو تذكرت سلبيات سياسية يعانى منها شعبنا حتى يومنا الحالى، كما أتذكر إيجابيات لا يستطيع أن يتجاهلها منصف، فقد جمعت الثورة بين النقيضين، وإن كنت أرى أن شرها غلب خيرها بسبب انحراف رجالها عن الأهداف التى أعلنوها أمام الشعب، وجعلوا الجميع يحلمون بمستقبل غارق فى الحرية لكن استيقظ الجميع على لعنة الاستبداد السياسى التى تلاحقنا حتى اليوم.
ولنبدأ من الإيجابيات التى يأتى على رأسها التخلص من الاستعمار، والنظام الملكى الفاسد، الذى باع الوطن للمستعمرين، وسمح بنهب خيراته، وترك للإقطاعيين السيطرة على اقتصاد مصر والتحكم فيه على هواهم.
كما لا نستطيع أن نتناسى إتاحة التعليم للجميع، ومزاحمة أولاد الفقراء الأغنياء بالجامعات، وأتذكر كلمات جدتى -التى ماتت حزنا على وفاة جمال عبد الناصر فى نفس يوم وفاته – حيث قالت نَصَفَ عبد الناصر الفلاحين وجعلهم من الملاك بقانون الإصلاح الزراعى.
لكن إذا تطرقت إلى الأخطاء التى غرقت فيها الثورة ورجالها فهى لا تعد ولا تحصى، ويأتى على رأسها الترسيخ للنظام البوليسى والاستبداد السياسى، الذى مازلنا نعانى منه حتى يومنا الحالى، بل ذاق المصريون الأمرين من مراكز القوى التى أذلت البلاد والعباد وانحرفت بالوطن إلى أسفل القاع.
فقد أعلنت الثورة أن من أهدافها إقامة حياة نيابية سليمة، وإصلاح دستورى، ولكن جاء الواقع ليكذب كل ذلك، فالفساد استشر فى كل القطاعات، والعجز والظلم السياسى والاجتماعى اجتاح الجميع، وحتى قانون الملكية الزراعية لم يتحقق كله، ولو تحققت هذه الأهداف ما كانت مصر ضمن دول العالم الثالث، ومازلنا بعد58 سنة نحاول تحديد وجهتنا الاجتماعية والحضارية والثقافية، ومازالت فلسفة الحزب الواحد والتعددية الصورية هى الفلسفة السائدة، وليس هناك احترام للحريات وحقوق الإنسان، فمازال التعذيب فى السجون مستمرًا والاعتقال المتكرر صفةً من صفات الأنظمة الحاكمة؛ لذلك فلم يبق من الثورة إلا اسمها فقط.
كما لن ينسى التاريخ لرجال الثورة أنهم علقوا على أعواد المشانق خيرة علماء الأمة أمثال سيد قطب وعبد القادر عودة واعتقالهم للمخلصين الوطنين من مختلف الألوان السياسية، كما أنهم نجحوا بجدارة فى خداع الأمة، ففى الوقت الذى يذوق رجال قواتنا المسلحة الموت على يد الصهاينة، وجدنا الإعلام الرسمى للثورة يعلن انتصارا منقطع النظير، وتدميرنا لطائرات العدو فى حين انكشف سوءة الأشاوش على أيدى وسائل الإعلام العالمية، ولقد سن رجال الثورة منذ ذلك الوقت سنة سيئة تتمثل فى غرق الإعلام الرسمى فى الرؤية الحكومية الرسمية، وإعدام الحريات وعدم السماح بطرح الرؤى المخالفة للنظام الحاكم وتجاهل كل القوى السياسية الأخرى فى وسائلنا الإعلامية الرسمية.
كما رسخ رجال الثورة الأشاوس لعشق الكرسى والمناصب، فأصبح يصيب كل مَن يجلس عليه بالجمود والتيبُّس، بحيث يصعب على من يجلس عليه أن يفارقه إلا جثة هامدة، سواءٌ ميتًا أو مغتالا أو موت بمرض عضال.
ومن الخطير أن الثورة اختزلت فى شخص "جمال عبد الناصر" والذى خرجت بعد وفاته حركة الناصريين ثم تطور الأمر لتأسيس أكثر من حزب ناصرى سواء فى مصر أو فى الدول العربية، وبالتالى تمت شخصنة الحدث فى شخص عسكرى بعيدا عن الفكر أو السياسة، وأصبح هذا نهج من أتوا من بعده لحكم مصر، فالسادات ومبارك أصبحا هما مصر ومصر هما، وكأن الوطن عقم أن يأتى بزعماء جدد يصلحون لهذا المنصب.
كان يجب على رجالات الثورة أن يسلموا السلطة لإدارة مدنية تدير الدولة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، فى حين يكونوا سلطة عسكرية تملك القوة لردع أى شخص يحاول أن يقتل حريات الشعب، أو يصادر الديمقراطية ويحتكر السلطة لنفسه رغما عن أنف أبناء هذا الشعب.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة