تعلمت من أستاذى الراحل محمود عوض أن أضع الأرقام الصحيحة والحقائق المجردة أولا أمام القارئ قبل أن أبدأ معه النقاش وأطرح أمامه ما أريده وأتمناه وأفتش عنه.. وهذه هى الأرقام والحقائق.. ففى قصر العينى فى قلب القاهرة لا تكفى الميزانية السنوية المخصصة له من الدولة ومقدارها 116 مليون جنيه علاج مليونى مصرى كل سنة.. ولابد من تبرعات وجهود ومناشدات لتدبير 60 مليون جنيه على الأقل كل سنة ليبقى القصر فاتحا أبوابه للمرضى والموجوعين كما هى منذ 183 سنة.. وتبلغ الميزانية السنوية المخصصة لكل مستشفيات جامعة المنصورة ومراكزها الطبية الشهيرة مثل مركز علاج أمراض الكلى 54 مليون جنيه بعد خصم مرتبات الأطباء والعاملين.. وبدون تبرعات تتجاوز ضعفى هذا المبلغ لن يلقى فقراء وسط الدلتا أى علاج.. أما فى شرق الدلتا فقد أصبح الفقراء لا يتلقون أى علاج بالفعل بعدما باتت الميزانية الرسمية لا تكفى لتسيير العمل فى مستشفى الزقازيق الجامعى، وغابت التبرعات اللازمة لإبقاء هذا المستشفى على قيد الحياة وهو الوحيد الذى يخدم مرضى الشرقية والمحافظات المجاورة.. وفى الجنوب.. لولا جهود شخصية للدكتور مجدى يعقوب وتبرعات ذاتية تأتى من أجل هذا الطبيب العالمى الشهير.. لما وجد الصعايدة أى علاج متاح أمامهم لقلوب الأطفال أو سرطانات الكبار.. والآن.. ماذا يعنى ذلك؟.. هل يعنى أن الدولة قررت أن تنفض يديها من هذا المجال شديد الحساسية تاركة إياه يواجه مصيره بنفسه، وأن يعتمد المرضى الفقراء على أحاسيس ومشاعر وتبرعات أغنياء، بينما تبقى بعيدة كل مؤسسات الدولة وهيئاتها الرسمية المتخصصة.. وأنا بالتأكيد سعيد بهذه التبرعات وأراها سلوكا شديد النبل.. ولكن ما هكذا تدار الأمور فى الدول الحقيقية أو الطبيعية.. وإذا كانت هناك أوضاع كثيرة معكوسة فى بلادنا فإن ما يجرى فى القطاع الطبى تحديداً هو دليل صارخ وموجع ومهين يشهد على ذلك.. فالدولة تلتزم بكل ما هو ليس ملزما، وتتخلى عن كل ما هو مستحيل التخلى عنه.. التزمت الدولة وأنفقت المليارات لتطوير طريق الإسكندرية الصحراوى وتوفير جميع خدمات البنية الأساسية كالمياه والكهرباء والصرف الصحى وما يحتاجه الترفيه عن مصطافى الساحل الشمالى، وتركت مستشفى سرطان الأطفال يبنيه المصريون بالتبرعات والإعلانات التليفزيونية والمجاملات الشخصية، مثلما ستبدأ قريبا حملات المناشدة ودعاوى جمع التبرعات لبناء معهد السرطان بعد انتقاله إلى 6 أكتوبر.. والمثير فى الأمر أننا كلنا فرحنا بقدرة المصريين وإنسانيتهم الرائعة التى سمحت من خلال تبرعاتهم ببناء صرح لسرطان الأطفال.. ولم ننتبه بالشكل الكافى إلى أن المعادلة كلها خاطئة من الأساس ومقلوبة.. ولا يقتصر الأمر على تلك المعادلة وحدها.. ولا أن الدولة قررت.. ولو بشكل غير معلن.. أن تنفض يديها تماما من علاج الناس.. مثلما نفضت يديها سابقا من تعليمهم.. معلنة أن التعليم والعلاج هو قضية كل أسرة أو بيت يتعامل معهما وفق ظروفه الخاصة وحسب الممكن والمتاح.. وإنما قررت الدولة أيضا أن تنفض يديها من المستقبل.. ففى الفيوم هذا الأسبوع انعقد المؤتمر العلمى السنوى الحادى عشر بكلية الخدمة الاجتماعية.. وأعلن المؤتمر أنه من بين مليونى إلى ثلاثة ملايين طفل مصرى يقيم فى الشارع.. منهم 90% من الشواذ جنسياً تم الاعتداء عليهم واغتصابهم فى الشارع.. وهو ما يعنى.. بلغة الأرقام أيضاً.. أننا بعد سنوات قليلة سنواجه قرابة المليون ونصف المليون أو المليونين ونصف المليون شاب.. لا يملك شيئاً.. لا يحلم.. لا يعمل.. لا يحب.. لا ينتمى.. يشعر طول الوقت بالغضب واليأس والمرارة والحقد على كل الآخرين وبيوتهم وأولادهم وحياتهم.. ومن الواضح أننا لا ننتبه لذلك بالشكل الكافى.. وأرجوكم لا تتحدثوا عن وزارة للأسرة أو السكان ولا جمعيات ومؤتمرات وحفلات عشاء لمناقشة ظواهر أطفال الشوارع.. فهم يمارسون كل هذا السفة والعبث والتضليل من سنوات ولا شىء يتغير.. لا شىء فى مصر كلها يتغير.. لأنه لا أحد يهتم.. ولأن مصر كلها رفعت شعاراً واحداً آمن به الجميع.. لا دولة ولا نظام ولا مؤسسات.. فالحياة فى مصر باتت مسؤولية وقرارا واختيارا شخصيا لكل مصرى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة