فى ذكرى مولده أجد أن الكلمات والمشاعر لا تكفى للثناء على هذا النبى العظيم، محمد صلى الله عليه وسلم، الذى قاد العالم لأكبر حركة تنويرية فى تاريخ البشر، وأسس لأعظم مشروع إصلاحى، عرفه العالم، وبنى أطهر منظومة اجتماعية ترفعت بالبشر عن انحرافات المادية المفرطة، بل رسخ منظومة قيم طهرت البشرية من الانحراف الأخلاقى.
وإن كنت تناولت بالأمس الجانب السياسى عند الرسول، فاليوم أحاول أن أتعرض بشىء من الاقتضاب لباقى المنهج النبوى الذى يحتاج لعشرات المجلدات للغوص فى تفاصيله، وسأبدأ بالجانب الاقتصادى ليعلم الجميع أن محمدا جاء بمنهاج شامل لكل مناحى الحياة، صالح لكل زمان ومكان، برنامج عملى طبق على الواقع وعاش العالم فى ظله أزهى عصوره، فقد جاء الرسول بنظام اقتصادى يعد الآمن على أموال الناس، فإذا كان النظام الرأسمالى يقوم على اليد الخفية الهادفة إلى الربح بأى وسيلة فى المقام الأول، وإن كان النظام الاشتراكى يقوم على اليد الباطشة، فنجد أن الاقتصاد الإسلامى يقوم على أسس أخلاقية وقيمية فى المقام الأول ، لذا نجد أن الاقتصاد الإسلامى يقوم على المضاربة وحرية التجارة، دون الاحتكار والفوائد الربوية (نظام فوائد القروض والائتمان)، والتى تعد أشد الشرور لأنها تقود لسيطرة أصحاب القروض (المقرضون) على المقترضين، وتسلب حرياتهم وأعمالهم وديارهم، وتسبب آثارًا اجتماعية واقتصادية خطيرة على البشرية ، فالاقتصاد الذى أسسه النبى حرم المشتقات المالية التى تعتمد اعتمادًا أساسيا على معاملات وهمية ورقية شكلية تقوم على الاحتمالات، ولا يترتب عليها أى مبادلات فعلية للسلع والخدمات، فهى عين المقامرات والمراهنات التى تقوم على الحظ والمقامرة، والأدهى والأمرُّ أن معظمها يقوم على ائتمانات من البنوك فى شكل قروض.
وهذا النظام الاقتصادى الآمن دفع أكبر مؤسسة مسيحية بالغرب لحث الاقتصاديين على وضع أسس الاقتصاد الإسلامى فى الحسبان، حيث أكد الفاتيكان، فى أعقاب الأزمة المالية العالمية، أنه يتوجب على البنوك الغربية أن تنظر إلى القواعد المالية الإسلامية بتمعن من أجل أن تستعيد الثقة وسط عملائها فى خضم هذه الأزمة العالمية. وقالت صحيفة الفاتيكان الرسمية المعروفة باسم «أوسيرفاتور رومانو» «قد تقوم التعليمات الأخلاقية، التى ترتكز عليها المالية الإسلامية، بتقريب البنوك إلى عملائها بشكل أكثر من ذى قبل، فضلاً على أن هذه المبادئ قد تجعل هذه البنوك تتحلى بالروح الحقيقية المفترض وجودها بين كل مؤسسة تقدم خدمات مالية».
بل أسس النبى لنظام متكامل للحياة الاجتماعية، ووضع الخطوط العريضة للتعاملات، ورسخ المبادئ والأخلاقيات التى ترتفع وتسمو بالإنسانية، وأعطى الفرص للبشر أن ينظموا حياتهم بما يتناسب مع تطورات العصر، فالتشريعات الملزمة مثل الحدود والفرائض والحلال والحرام لا تزيد عن نسبة 40% من مجريات الحياة، بينما نجد أن هناك 60% من تنظيمات الحياة البشرية تقع تحت مظلة المصالح المرسلة التى ترك الله لعباده تنظيمها بالطبع بما لا يخالف مبادئ العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، مع العلم أن الأصل فى كل أمور الحياة الإباحة إلا ما جاء فيه نص، وما حرم الله حرامًا إلا لحماية الإنسانية، والترفع بها عن الحيوانية، فما حرم الإسلام الزنا إلا لصيانة الأنساب والإنقاذ من الأمراض القاتلة مثل الإيدز وغيره، وما حُرِّم القتل إلا للمحافظة على الروح، وما حُرم الخمر إلا لحماية العقل، وما حرمت الغيبة والنميمة والسب والقذف إلا لحفظ السمعة والسلام الاجتماعى.
أقر الرسول الحرية الشخصية بمختلف درجاتها، لكنها مشروطة بالحفاظ على حرية الآخرين، ومبادئ المجتمع التى يتبناها، كما يقر المشروع المدنى الإسلامى حرية الاعتقاد ومبدأ المواطنة، فها هو النبى الكريم منذ الوهلة الأولى يحافظ على النسيج الوطنى لدولته بالمدينة ويوقع وثيقة مدنية من الطراز الأول أقرت حقوق المخالفين له فى الاعتقاد، ووقع معاهدات مع اليهود من أجل دمجهم فى المشروع المدنى الإسلامى الذى تمتعوا من خلاله بكل مبادئ المواطنة، وظل المسلمون محافظين على عهودهم حتى نقض اليهود عهودهم ونكثوا على أعقابهم وتآمروا على المسلمين، وهتكوا مبادئ المواطنة، ووالوا أعداء وطنهم والمحاربين لدولتهم.
كما أقر الرسول الحرية العلمية، التى حافظ عليها خلفاؤه، ولاقى العلماء فى ظل الدولة الإسلامية كل المساعدة والتقدير، فما سمعنا عن عالم قُتل بسبب اختراع له كما فعل الغرب مع علمائه فى العصور المظلمة، لكن سمعنا عن الخلفاء الذين وصل تشجعيهم للعلماء أن تصل عطاياهم لهم أن توزن مؤلفاتهم بالذهب كما حدث فى العصر العباسى الثانى، بل أقر النبى الكريم هذه الحرية بموقفه من أمر النخيل فى المدينة؛ حيث استشاروه وأمرهم الرسول بمعالجة للنخيل تخالف معالجتهم المعتادة، وعندما لم تأت الثمار المطلوبة؛ علمهم النبى درسا مهمَّا أقر به الحرية العلمية؛ حيث أطلق الرسول كلمته المشهورة "أنتم أعلم بشئون دنياكم" أى فتح باب الاجتهاد العلمى على مصراعيه أمام المسلمين وطالبهم بتفعيل نعمة العقل.
إنه منهج متكامل يُخرص ألسنة من يحاولون أن يحجموه فى مجرد أركان تعبدية، وشعائر إيمانية، فقد أتى الرسول بمنهاج حياة، ما شقى العالم إلا بسبب مجافاته والبعد عنه، وما غرقنا فى الأزمات الأخلاقية والمالية إلا بالانحراف عن هذا المنهج القويم، ولا يسعنى إلا أن أدعوا العالم بأثرة للعودة لهذا المنهج الذى سينقذ العالم مما يعيش فيه من تيه.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة