فى رواية (خريف البطريرك) التى أبدعها الروائى الكولومبى الفذ ماركيز– نوبل 1982، نكتشف أن الحاكم الديكتاتور يستخدم ختماً يوقّع به القرارات الرسمية التى يصدرها، لأنه لا يعرف القراءة والكتابة! ونقرأ أيضاً أن والدته كانت حزينة عندما أصبح ابنها رئيساً للجمهورية، لأنها لو كانت تعلم مستقبله الباهر، لكانت ألحقته بالمدرسة.
تثير هذه الرواية المدهشة عدة أسئلة تتعلق بعالمنا العربى وحكامه. صحيح أن ديكتاتور ماركيز كان يحكم بلداً فى أمريكا الجنوبية، إلا أن التاريخ يعلمنا أن خصال الديكتاتور واحدة فى أى مكان وكل زمان، كما يصح أيضاً التأكيد على أن حكامنا العرب الأفاضل لا يكتفون بمعرفة القراءة والكتابة فحسب، بل يجيدونها، وبعضهم يتقن لغة أجنبية ثانية، إلا أن ذلك لا يمنع من طرح عدة أسئلة مهمة مثل:
*هل قرأ حكامنا التاريخ؟ وهل يدركون الفضيلة الكبرى لفهم الجغرافيا وكيفية ربط هداياها بحركة التاريخ وتطوره؟ علماً بأن مصر على سبيل المثال تعد نموذجاً مدهشاَ للتزاوج المثمر بين الجغرافيا والتاريخ. راجع من فضلك كتاب جمال حمدان "شخصية مصر... دراسة فى عبقرية المكان".
* هل وعى حكامنا من خلال قراءتهم للتاريخ، إذا كانوا قد قرأوه أصلاً، أن مصير الذين يحتقرون الجغرافيا فينهبون الثروات ويبطشون بالناس ويديرون الأوطان باعتبارها إقطاعيات خاصة.. أقول هل أدركوا أن مصير هؤلاء هو الثورة عليهم وإزاحتهم بالقوة من فوق عروشهم، لينعتهم التاريخ بأبشع الصفات؟
* هل تعتقد أن حكامنا اطلعوا على أشعار المتنبى أو أحمد شوقى أو نزار قبانى أو صلاح عبد الصبور أو حجازى ومحمود درويش؟ ولأن الإجابة حتماً بالنفى، سأزيدك من الشعر بيتاً وأخبرك: أنهم لو قرأوا شعراً بحق، لكانت مشاعرهم ترققت، ونفوسهم تهذبت. فلا يتركون شعوبهم تكابد الفقر والجهل والمرض ( يوجد فى مصر الآن 26 مليون أمى بكل أسف).
لو كانت أرواحهم تمايلت طرباً مع الشعر، أو انفعلوا بروايات محفوظ وبهاء طاهر وماركيز...إلخ، ما تركوا مدنهم الكبرى، مثل القاهرة، أسيرة للفوضى والقبح والإهمال.
لو كانوا يقرأون ما ناموا الليل، من فرط الخجل، مادام هناك ملايين من الشباب عاطلين عن العمل فى بلادنا!
لو كانوا يقرأون ما تركوا السودان ينشطر إلى نصفين أمام أعينهم، لأن القراءة ستعلمهم أن التفريط فى وحدة السودان، سيؤدى إلى خنق مصر مائياً من خلال السيطرة على منابع النيل، ذلك أن إسرائيل (تكافح) منذ سنة 1959 لفصل جنوب السودان عن شماله لتقيم معه تحالفات تهدد أمن مصر وتخصم من رصيدها. وها هى دولة الجنوب الموالية لإسرائيل على مرمى حجر.
لو كانوا يقرأون.. ما تلاعبوا فى الانتخابات، لأنهم بذلك يعرّضون كراسيهم الوثيرة للخطر، فالصبر مهما طال له آخر، والشعوب ستنفجر يوماً فى وجه أولئك الذين خطفوا السلطة ونهبوا البلد، ويخططون الآن لتوريثها لأبنائهم.
لو كانوا يقرأون لأدركوا القيمة الكبيرة لمصر وتاريخها العريق وشعبها الطيب، فحافظوا عليها، واستبسلوا فى تطوير البلد الذى يحكمونه، بدلاً من شفط ثرواته وإذلال شعبه!
لا يغيب عن حصافتك بطبيعة الحال أنهم ماداموا لا يقرأون، فإنه من المستبعد أن يتصدوا للكتابة، وهكذا لم نعلم أن أياً من أولى الأمر عندنا الآن قد قاموا بتأليف كتب فى السياسة أو الفكر أو الاقتصاد أو التاريخ أو حتى الأدب، الأمر الذى يؤكد أنهم يديرون شئون البلد بشكل عشوائى، لأنهم لم يقرأوا ولم يكتبوا، حيث إنهم مجموعة من البشر محرومة من الخيال، وعليه فهم يحكموننا بالبطش والترهيب.
وما الأوضاع البائسة التى وصلت إليها أحوالنا إلا نتيجة جهل هؤلاء الذين خنقوا الناس بغبائهم السياسى وفقر خيالهم، وجشعهم اللا محدود!
فى نهاية رواية ماركيز البديعة التى ذكرتها فى أول المقال نطالع أن الحاكم الديكتاتور اضطر إلى أن يبيع البحر، الذى منحته الجغرافيا إلى بلاده، ليسدد ديون الوطن التى اقترضها بجهله وغبائه للأمريكان.
ترى، بعد أن باع حكامنا شركات القطاع العام، وفرطوا فى الحفاظ على حصتنا فى المياه ، هل نتركهم يبيعون البحر كذلك؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة