مسكين الإعلام المصرى، فقدره أوقعه بين ملكيتين خيرهما أمر من المر ذاته.. ملكية الدولة وملكية رجال الأعمال.
منذ سنوات قليلة استقبلنا تجربة الصحافة الخاصة المملوكة لرجال الأعمال بتفاؤل، مبررة ما عانيناه من تجربة الصحف المملوكة للدولة ومن بعدها الصحف المملوكة للأحزاب، إلا أن التجربة أكدت سوء تقديرنا فى التفاؤل، وربما دفعت البعض منا بشكل ميكانيكى بسيط إلى التحسر على أيام الصحافة الحكومية، حاملين المثل الشعبى "يا ناكر خيرى بكرة تشوف زمنى وزمن غيرى".
صحافة الحكومة صحافة رسمية تبتعد بالتعبير عن تناول أى حقائق تتعارض مع الموقف الرسمى، وتفرض حصاراً على أى قلم يتجاوز السقف المحدد رسمياً للتعبير وحرية الرأى، ولكنها لم تتعرض أبداً للإبداعات والمهارات المهنية، طالما لم تتعارض مع الحدود المسموح بها.. وأيضاً كانت القيود المفروضة على أى كاتب أو صحفى يتجاوز الخطوط محدودة بالمنع لا تتجاوز حدود المنع من النشر، ذلك بفعل توزان فرضته ترسانة القوانين المنظمة للعمل والعلاقات بين مؤسسات الحكومة والعاملين فيها.. وهو ما ضمن استمرار حياة الكثير من المبدعين والكتاب على قيد حياتهم المهنية رغم قيود النشر، فاستمرت الحياة الفكرية مقيدة ولكنها لم تمت ولم تفقد قدرتها على إفراز الجديد.
ظهرت بعد ذلك تجربة الصحف الحزبية حاملة من الأمراض والسلبيات أكثر مما تحمله من الإيجابيات، ولأنها أحزاب بيروقراطية تحمل كل الصفات الوراثية للسلطة التى سمحت بوجودها سلماً وتفضلاً، فقد حملت أيضاً كل أمراضها وتحولت قواعد العمل فى صحفها إلى نموذج مصغر من قواعد العمل فى الصحف الحكومية، وعرفت صحف الأحزاب مبكراً فكرة الأسقف المنخفضة، والتوزانات والمواءمات العليا.. وزيادة عن الصحف الحكومية كانت إدارة الصحف الحزبية أكثر تنكيلاً بالعاملين فيها لعدم خضوعها للتوازنات القانونية التى كانت تضبط بطش المؤسسات الرسمية.. وأتذكر رئيس مؤسسة صحفية حزبية وكان رئيسا للحزب ذاته، وهو يقف أمام صحفيين بالمؤسسة يناقشونه فى عدم قانونية إجراء اتخذه تجاههم قائلاً: "أنا القانون.. أنا المالك"!!!
وفى احتفال مهرجانى مبهج ملىء بالألوان الزاهية المفرحة ووجوه صفراء مبتسمة، وأذرع مفتوحة على مصراعيها، ووعود غير محدودة، وإغراءات مادية وفكرية.. اقتحم رجال الأعمال ساحة الإعلام وسط تهليلات وتفاؤل رجال الإعلام المدفوعين بما عانوه من قهر التجارب السابقة.. آملين فى مناخ جديد يضمن لهم حرية الإبداع والتعبير، وقدر من الدخول الإنسانية تغنيهم عن الانشغال بالمعايش اليومية، وتتيح لهم فرصة التفرغ والتركيز فى هموم وقضايا أكثر عمومية، فما أروع أن تكون مبدعاً مستوراً تعيش فى مجتمع حر، وارتدى الوافد الجديد الرداء التاريخى للصحف الخاصة، قبل يوليه 1952 وتوج رأسه بنجاحات هذه التجارب الخاصة السابقة.
وكانت الصدمة الجديدة وكشف الوافد الجديد عن أنيابه ومصالحه التى تتعارض بحكم تكوينه مع المصالح العامة. أتذكر مقولة على بن أبى طالب: "ما اغتنى غنى إلا بفقر فقير"، وهى المقولة التى أكدها التاريخ، ولهذا فليس من المنطقى أن يقوم الأغنياء، أو رجال الأعمال فى زمننا، والذين تستهدف أعمالهم تكديس الثروة، على حراسة الكلمة وضمان حرية التعبير عن مصالح الفئات الغالبة من الفقراء، وذلك وببساطة لتعارض المصالح.. فأى حق سيحصل عليه هذا الفقير سيكون انتزاعاً من ثروة الغنى أو رجل الأعمال المكدسة.. ومن هذا فإن مصالح الأغلبية لا يمكن أن تخضع لريادة الأقلية المهيمنة المستغلة.
أما عن التجربة التاريخية الناجحة للصحافة الخاصة قبل يوليه 1952م، والتى استند عليها الوافد الجديد، فأذكره أنها كانت تجربة موقف وسياق مختلف.. فأصحاب الأعمال فى ذلك الوقت كانوا من رجال الصناعة والنهضة ويحملون مشروعاً تحررياً تنموياً فى مواجهة المستعمر.. ولهذا فإن الصحف التى انشأها كانت بهدف التعبير عن هذه الأهداف، وليس بهدف حماية أموالهم وزيادتها.. والدليل على ذلك أن كل أصحاب الأموال الآن، وخاصة الحريصين على امتلاك وسائل الإعلام، وكلاء للغرب (المستعمر سابقاً) وليسوا رجال صناعة تنموية.
وإذا كانت قيود الهيمنة الرسمية على الصحف محكومة بترسانة من القوانين المنظمة لعلاقات العمل، وهو ما كفل حماية للكثير من العاملين فى هذا المجال من التشرد أو الوقوع تحت ضغط الحاجة.. فإن الوافد الجديد لا يخضع لهذه التوازنات وأكثر حرية فى تحديد مصير من يعملون معه بالسلب أو الإيجاب، طبقاً لهواه ومزاجه ودون أى قواعد أو معايير.. وهو ما خلق حالة من الاختلال المتعمد فى الوسط الإعلامى، فصعد الغثاء وهبط النفيس وانهارت الريادة الإعلامية والفكرية والأدبية لمصر، بعد أن لبست البوصة وأصبحت عروسة، وبعد أن نجحت الماشطة فى ضبط الوش العكر.
سادت فى الوسط الإعلامى بعد قدوم الوافد الجديد قيم جديدة بعيدة عن الحق والحرية، فتحول البعض منهم إلى مسخ مرتدياً ثوب الأراجوزات الملون، لإرضاء ولى النعم، مقابل الإغداق عليه بالهبات والأموال.. ووقف البعض ناشداً الحسنيين.. الموقف والمال.. وهذا الفريق انتصب إلى حين حتى أرخته لحظة الفصل والحسم.. وما تجربة الدستور ببعيدة.. وفى الجزء المضىء من المشهد وقف فريق قابض على موقفه كالقابض على قطعة جمر.. ولكنه للأسف لم يتجاوز موقف المنتظر السلبى.
نداء السفير إبراهيم يسرى للشرفاء وأصحاب المصلحة بالاكتتاب لإنشاء صحيفة للشعب، لا تخضع لمصالح الملكية الخاصة، ولا لهيمنة الحكومة، يُذكر بفكرة نقيب النقباء كامل الزهيرى عن الصحافة التعاونية، وهى الفكرة التى ظلت أمنية محبوسة حتى أكد ضرورتها بشاعة الواقع وكارثيته.
صحافة الشعب هى الحل.. أضم صوتى لصوت السفير إبراهيم يسرى للاكتتاب لإنشاء صحيفة تعبر عن مصالح الأغلبية، ولا تخضع لسلطة رأس المال أو هيمنة السلطة الحاكمة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة