نشرت مجلة "ساينتيفك أمريكان" بحثاً هاماً يوضح أن مشاهدة التليفزيون بشكل دائم، ولوقت أكثر مما يبغى، يمكن أن يؤدى إلى حالة من الإدمان، تؤثر على حياة الشخص وصحته الجسدية والنفسية، ويمكن أن تنعكس نتائج هذا الإدمان على إنتاجه وتركيزه وذاكرته، شاملاً كل المضاعفات التى تندرج تحت بند الإدمان.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن فترة مشاهدة التليفزيون يومياً تتراوح ما بين 2 ـ 3 ساعات فى الدول الصناعية المتقدمة، وربما أكثر من ذلك فى الدول النامية، حيث تصل فترة المشاهدة إلى 4 ـ 5 ساعات يومياً فى المتوسط، ومعنى ذلك أن الإنسان إذا عاش حتى سن الخامسة والسبعين، فإن حوالى 8 سنوات من عمره قد ضاعت فى الفرجة على التليفزيون.
وفى استطلاع للرأى بواسطة معهد "جالوب" الأمريكى، تبين أن حوالى 10 % من البالغين الذين شملهم الاستطلاع يصفون أنفسهم بأنهم مدمنين للجلوس أمام شاشة التليفزيون بغض النظر عما يعرضه من برامج أو أفلام.
وفى دراسة لمحاولة معرفة التغيرات الذهنية والعصبية والتأثيرات الفسيولوجية الناتجة عن مشاهدة برامج التليفزيون، تم تصميم الدراسة بحيث يمكن تركيب أجهزة معينة لهؤلاء الأشخاص الذين يجلسون لفترات طويلة أمام التليفزيون، بحيث يتم من خلالها عمل رسم للمخ ، وقياس مقاومة وحرارة الجلد، وسرعة نبضات القلب والتنفس، وذلك خلال ساعات النهار والليل المختلفة، وأثناء الأنشطة اليومية العديدة للإنسان مثل النوم، ومشاهدة التليفزيون، والقراءة، وممارسة الرياضة وغيرها، بحيث يتم تسجيل موجات رسم المخ، ومقارنته مع تقرير النشاط الذى يسجله فى موعده ويبلغ به المركز، بحيث يتم مراجعته ومقارنته بالوظائف الحيوية المختلفة.
وقد تبين من الدراسة أن مشاهدة التليفزيون لفترات طويلة يجعل الإنسان يشعر بشىء من الاسترخاء، والشعور بالسلبية، وربما فى بعض الأحيان الإحساس بالذنب والضيق لشعور الإنسان أنه قد أضاع وقتاً طويلاً دون أن يفعل شيئا هاماً يذكر، خاصة فى الفئات المتعلمة من الطبقات المتوسطة، وأحيانا تتسبب المشاهدة المكثفة والمتكررة للكوارث والحروب مثلما يحدث الآن فى العراق وفلسطين ولبنان مثلاً، فى خلق حالة نفسية إما أن تكون غاضبة وحزينة ومتمردة، أو أن تخلق نوعا من البلادة وعدم الاكتراث واللا مبالاة كرد فعل مناعى نفسى لكى يحمى الإنسان نفسه من الانهيار، والوقوع فى براثن الاكتئاب والفصام لعدم مقدرته على فعل أى شئ إيجابى، فيحول المؤشر إلى قنوات الغناء والفيديو كليب والعرى، وفى كل الأحوال يجد الإنسان معاناة كبيرة فى الإقلاع عن مشاهدة التليفزيون.
وقد أوضحت نتائج فحص رسم المخ أن قياس موجات "ألفا" أثناء مشاهدة التليفزيون تكون أكثر منها أثناء القراءة، مما يوضح أن المخ يكون أقل تنبيها واستيقاظاً عند مشاهدة التليفزيون، ولعل هذا يوضح لأبنائنا الطلاب خطورة قضاء أوقات راحتهم بين المذاكرة فى مشاهدة التليفزيون، فالأفضل أن يسترخى الطالب، أو يمارس بعض الرياضة، أو يلجأ إلى تقوية الجانب الروحى عنده مثل الدخول فى الصلاة، وقراءة القرآن وغيرها.
والمدهش أيضاً فى نتائج هذه الدراسة أن الإحساس بالاسترخاء الذى ينتاب الإنسان أثناء المشاهدة يضيع بمجرد غلق التليفزيون، إلا أن الإحساس بالسلبية، وركود نشاط المخ يستمر حتى بعد القيام من أمام الشاشة، وكأن الطاقة الحيوية التى كانت موجودة داخل الإنسان قد تبددت، على عكس ما يحدث أثناء القراءة، أو ممارسة الرياضة، أو ممارسة بعض الهوايات التى يحبها الإنسان ، حيث تشحذ هذه الأنشطة الطاقة داخل الإنسان، وتجعله يشعر أنه أفضل، وربما يكون للتعرض للموجات الكهرومغناطيسية دخل فى هذا الشعور أيضاً، ومعظم مدمنى مشاهدة التليفزيون يشاهدون أكثر مما ينوون مشاهدته، بغض النظر عن نوعية البرامج التى يشاهدونها، تماماً مثل المدمن الذى يزيد من كمية المخدر التى يتناولها، حتى يحدث له نفس الأثر النفسى والبيولوجى الذى اعتاد عليه، وهو ما يطلق عليه فى الإدمان المقاومة أو Tolerance.
ومشاهدة التليفزيون تشغل حاستى السمع والبصر معاً، وتسبب لهما ما يسمى برد الفعل التكيفى Orienting Reaction، وقد تم وصف دراسة رد الفعل هذا منذ عام 1927 بواسطة " إيفان بافلوف " لأول مرة، فمشاهده الصورة وتغيرها بسرعة ما بين التقطيعات السريعة، والقرب، والبعد، والإظلام، والنور، والصوت العالى والمنخفض، كل هذا مما نراه فيما نشاهده اليوم فى أغانى الفيديو كليب، وإعلانات التليفزيون، من أجل أن يجذب نظر المشاهد للشاشة، إنما هو فى الحقيقة يضره ويشتته، ويؤثر عليه من الناحية الفسيولوجية.
ولقد أوضح البحث الذى خرج حديثاً من جامعة "إنديانا" الأمريكية، أن هناك انخفاضاً فى سرعة دقات القلب قد يستمر لمدة 4 ـ 5 ثوان بعد التعرض لرد الفعل هذا سواء السمعى أو البصرى، وقد خلص البحث أن هذه التقطيعات فى المونتاج إذا زادت عن عشرة فى خلال دقيقتين، فإنها تؤثر بالسلب على الإنسان وترهقه، فإذا علمنا أن بعض أغانى الفيديو كليب تحتوى على هذه التقطيعات التى تنبه المخ، وتحدث رد فعله كل ثانية، أى 60 مرة فى الدقيقة الواحدة، فلنا أن نتخيل كم تضطرب نبضات القلب، وموجات رسم المخ، عندما نشاهد ما نشاهده من أغانى الفيديو كليب والإعلانات هذه الأيام.
وبالمناسبة فرد الفعل هذا يجعل الإنسان ينتبه إلى الصور، دون الانتباه إلى التفاصيل، وهذا هو المطلوب حتى لا يلتفت الإنسان إلى صوت المطرب أو الكلمات، التى غالبا ما تكون على لحن صاخب ومزعج، وعدد من الراقصات العاريات اللاتى يتلوين بخلاعة وعصبية.
والمشكلة الكبرى هنا تكمن فى الأطفال الصغار، الذين ينتبهون إلى إدمان مشاهدة التليفزيون فى مرحلة مبكرة من حياتهم قد تصل إلى 6 ـ 8 أسابيع من عمرهم، ويحولون رؤوسهم للفرجة عليه، ويصمتون عند مشاهدة هذه الصور السريعة المتلاحقة، وهذا الصوت والرتم الصاخب، وهذا يسعد الأمهات بالطبع، فتترك الأم ابنها بالساعات أمام التليفزيون ليفعل به ما يشاء، ولعلنا لا نتحدث هنا عن المحتوى والقيم السلبية التى يمكن أن تنتقل إلى هذا الطفل من خلال مشاهدة التليفزيون، وهذا موضوع آخر، ولكننا نقتصر فقط على عرض التأثير الفسيولوجى والبيولوجى للمشاهدة الطويلة للتليفزيون.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة